الثلاثاء، 10 يناير 2012

الكمين ...


الكمين
 وفيق رمزي

إن من يملك عنصر المفاجأة في أي حرب يملك النصر   ! ...
لهذا فالخطط الحربية تظل مخيفة حتى تكشف ، وهذا هو الدور التي تقوم به أجهزة المخابرات الحربية والعسكرية لأي دولة، أن تكون خططها الاستراتيجية في منتهى الأمان والسرية ، وأن تكون -من الناحية الأخرى- كل خطط الأعداء على الطاولة .
وعلى المستوي الروحي، كذم من أكمنة نصبت على أشخاص فدمرت حياتهم ... وشوهت شهاداتهم ، ألم يذهب شمشون في خبر كان بسبب كمين؟ ألم يؤخذ الرجل الشفاف داوود في شرك الخطية بسبب كمين آخر ، ألم يرتب كمين شرير لأذية بولس الرسول لولا انقاذ الرب له (أع12:23-25) ؟!

         إن خطورة الكمين كلها هي المفاجأة ... وخطورة المفاجأة دائماٌ هي أنها تكشف عن حالة عدم الاستعداد ...فالاستعداد معناه ألاَّ تفاجئ بشيء ...






(1)              
الكمين الأول
كمين للفرار
تجهيز الكمين
يقول الحكيم سليمان " يا ابني اعطني قلبك ولتلاحظ عيناك طرقي .لأن الزانية هوة
عميقة والاجنبية حفرة ضيقة، هي أيضاً كاللص تكمن وتزيد الغادرين بين الناس "
( أم 26:3-28)
في ترجمة تفسيرية أخري " هي ترقد لتنتظر لتمسك فريستها " YLT  ، " أبني العزيز أريدك في كامل انتباهك ، وافعل ما أريك إياه بالضبط ، إن الزانية حفرة لا قرار لها ، والمرأة المنحلة يمكنها أن تزج بك سريعاً في المشاكل ستأخذك لتأخذ كل ما معك ، لأنها أسوأ من مجموعة من اللصوص  THE MESSAGE
" ثق في نصيحتي يا بني ، ابتعد تماماً عن العاهرات ، فالزانية قبر ضيق وعميق ، وهي كاللص تنتظر ضحاياها ، حين يصيروا واحداً بعد الآخر غير أوفياء لزوجاتهم " the living Bible.

عندما يتكلم الحكيم سليمان عن " النساء " فهذا الرجل بالذات لا يتكلم أبداً من فراغ ، والمثل يقول " أسأل مجرب "... وإن كان أحدهم قد قال "إن من يدعي أنه يعرف المرأة إما أنه طبيب نفساني وإما أنه محتاج إليه "!! فسليمان كان الحكيم النفساني ، وكان هو – في أمر النساء – محتاجاً إليه !!لقد أملن نساؤه الأجنبيات قلبه ... وهذا الميل الشرير لم يكن مجرد ضعف أو نزوة عابرة في سن الطيش بل في عمر الشيخوخة ولم يكن مجرد ميلاً بل انجذاباً فالتصاقاً ، فانجراراً، فخراباً ... ومن الواضح أن الميل الطبيعي للجنس الآخر كأي ميل طبيعي ، من وراءه حكمة، وعليه حدود ، لكن إذ أفلت منا الزمام وصل الميل لانحناء ... والانحناء لانجرار، والانجرار لانكسار وبوار ودمار ... وهذه الخطية بالتحديد هي ما سبق وقال عنها أنها " طرحت كثيرين جرحى وكل قتلاها إقوياء ".

     نعم ، كل قتلاها أقوياء : ألم تطرح داوود أعظم قوة روحية ، وشمشون أعظم قوة جسدية وسليمان نفسه أعظم قوة عقلية ، وإذا سقط أمام المرء في سباق الحياة هؤلاء الثلاثة ، فماذا تبقى له بعد ؟!

     والعلاقات العاطفية الغير مقدسة هي تجهيز الكمين ، فإعداد الكمين هنا يتطلب أن تكون في نوم عميق ...

عندما بدأت العلاقة بين شمشون ودليلة ، لم يكن ينظر إليها سوى أنها فتاة متعة رخيصة ... فهي زانية ، تعمل فيما يسمونه هذه الأيام بـ( الجنس التجاري ) هذا عن عملها ، أما معنى اسمها ( فضعيفة ) ...
هي ضعيفة وهو جبار، عز الطلب .!
   هل يمكن أن تحرق أنفاسها القذرة روحه النبيلة، أو تقيد يديها الناعمة عضلاته الفتاكة ، أو تخترق توسلاتها حيز كتمانه ، هل يمكن أن يخرج هذا البطل العملاق من بيت هذه الساقطة يوماً مقلوع العينين وهو الذي أحبتها عيناه من أول نظرة، أو أن يخرج حليق الرأس وهو صاحب الجدائل المضفورة الجميلة ... هل يمكن أن ينكشف سره ، و تخترق قوته من إمرأة ...
ومن يمكن أن يجبره على هذا ؟! ومن يعرف كيف يلوي ذراعه ؟! أو يضايقه حتى الموت حتى يكشف سره ؟! ومتى موعد نومته الأخيرة التي تنتزع فيها حصانته السرية
، فيعود لا إلى بيته كرجلاً عادياً قضى ليل حياته مع ساقطة، لكن لبيت السجن يعمل بدلاَ من حيوان !؟

ما أمر وأقسى مهانة الشرفاء !! .. 

ومع أن دليلة لم تقدم لشمشون شيئاً سوى جسدها ، وهذا قدمته لكثيرين غيره ..
فلم يكن المقابل الذي وعدته به شيئاً غالياً أو أملاً سامياً ، لكنها على العكس تماماً عرفته بنواياها أنها أرادته ذليلاً ... موثقاً ...  لكن في مقابل ما قدمته الساقطة ، قدم هو جسده ، ونفسه ، وروحه ...
فما أغلى ما باع ، وما أرخص ما اشترى !!  
فكيف سقط الرجل في هذا الكمين !!

الخطوة الأولى في تجهيز هذا الكمين كانت هي : " الإلحاح الضاغط " ..
قالوها ولا زالوا (الزن على الودان أمر من السحر ) ...
يعني في البداية، يتخيل شمشون أنه من المؤكد سيصمت عن البوح بسر قوته، سيتجاهل نداءات دليلة الضعيفة ، ليحتقر استضعافها ، ليضحك على سذاجتها ، ليمثل عليها الحب  ...
أما أن تعرف السر فهذا هو المستحيل ...

هه ، كلهم قالوها - بنفس الطريقة - في البداية : 
قالوا : " لن نصل أبداً إلى هذا المستوى المتردي ، نحن نعرف متى وكيف نتوقف ، كيف نمزق عنا ربط العلاقة ببساطة ، كيف ننسى القصة ونطويها سريعاً في الأدراج المفتوحة والمخصصة لذلك ، ومن ناحية أخرى لن ننسى ونحن في هذه العلاقة أننا خدام الله ، لن نفرط في نعمة الله ، ولا في علاقتنا الشخصية به ، في مقابل (chat) رخيص ، أو فيلم عابر ... أو حتى عدد من الأفلام ... 
هل كان أحد يعلم أنه بعدما استقبل الرنة الأولى ، أو أنه بعدما قرأ الرسالة الأولى واحتفظ بها، وعندما أعاد على نفسه سراً النظرة الأولى وتركها مكانها في ذاكرته دون رد واضح ، ستعود مرة أخرى بطريقة أعمق ، وأوضح ، ولمدة أطول ... 
إن الإلحاح سلاح ضعيف في بدايته ، كضيف يدخل البيت على استحياء لكنه يكتسب قوة مع الوقت ، حتى يجعلك دون أن تشعر تقدم له الشاة الوحيدة التي يملكها قريبك، والدخول مرة ومرات تحت تأثير زنانة الإلحاح ، سيقودنا حتماً لزنزانة الإفصاح ...
فإن لم يجد العرض المتكرر استجابة قوية من المرة الأولى ، سيجذبها من داخلك رخيصة متهالكة في المرات التالية ..      
 
أما الخطوة الثانية فهي القيود الواهية :
لقد قيدته ثلاث مرات ، و لقد فك القيود في المرات الثلاثة ...لكن عجبي ، أنه عندما سقط لم يكن مقيداً ،
وهذا له بعدان خطيران أحدهما يختص بدليلة ، والآخر بالرجل ...
أما ما يخص دليلة كانت القيود تمثل تجربة أنواع مختلفة من الطرق تضعف بها من قوة شمشون النهائية، وتستهلك من صبره ، وتستنزف من عزيمته ، أما بالنسبة لشمشون فقد كانت المرات الثلاث مخدراً خبيثاً انساب في عروقه ، أوهن من عزيمته، أسرع بشمسه نحو المغيب ( شمس هي معنى اسم شمشون ) ، وجعله يذهب في ثبات عميق ليستيقظ منه بعد ذلك ليس كأبيه آدم الذي أفاق على حواء في الجنة مأخوذة من أضلاعه عائدة إليه ليحتضنها ، لكنه أفاق ليجد نفسه على ركبتي حواء أخرى دغدغت حواسه ، وهشمت أضلاعه، وحلقت شعر رأسه ، فلم يعد له كرأس مجد أو اعتبار، حواء أوثقت يداه التي احتضنتها ، وحرقت قلبه الذي فرح بالمتعة معها ...
لقد قيدته – حسب كلامه - أولاً بسبعة أتار طرية لم تجف  ..."والكمين لابث عندها في الغرفة "...
خيانة و غدر ... هل ترى معي ، ليس في غرفتها رجل واحد بل رجال ...
وليس لشيء يأخذوه منها ، بل ليأخذوا الرجل نفسه من عندها  ...
في البداية كان الأعداء يتربصون به عند مدخل المدينة، لكنهم الآن صاروا في غرفة نومه ، فقوى العدو التي لا توقفها على بعد ستزحف وتقترب حتى تصل إلى أضيق حدود أمانك .
لكن شمشون يتعامل مع الأمر لا بإحساس وفطنة المتيقظ ، لكن بغباء ولهو المتكبر العابث .
فالخطر- حتى الآن- واه ، صعيف  ... 
الحبال طرية ، الأمور غير خطيرة تماماً، لاتزال هناك مساحات مفتوحة ومبررات ممنوحة ، ليس شيئاً يمكن أن يقيد عضلياً هذا الذي خلع الأبواب بمصراعيها والقاها بعيداً ونفض يديه كأن شيئاً لم يكن، وليس شيئاً يمكن أن يوثق عقلياً هذا الذي أوثق ( الثعالب ) الماكرة بنات آوى .
ثم قيدته بحبال جديدة ... والحبال الجديدة هي طرق جديدة في الدوران حول خزانة ذخيرته ... لقد قيدته بطرق جديدة، ومع ذلك كان هناك – لحسن الحظ- بقية من الفنطة ، والإدراك في قلب شمشون ، تجاه الحبال الجديدة .
فلم يجد معه الأمر شيئاً ...
الأمور بدأت تكون مزعجة بعض الشيء ، الأحداث تتصاعد بشكل مثير ، هناك عند العدو باستمرار طرق وأساليب ، وأسماء ، وأسعار ، وعروض جديدة تأخذ جزءاً من وقتك للتفكير في كيفية التصرف ...
لاحظ معي أن المناورة تزداد طولاً وخطورة ... والإحساس يتبلد أكثر ... الجو يتلبد ... الإنهاك يسيطر أكثر ... 
ثم الطريقة الثالثة التي تمكن الكمين أكثر من إصابة الجبار النائم فهو أن تربط خصل شعره مع السدى ...       
هكذا بدأت النار تقترب من البنزين لقد وصلنا للخصل ... وصلنا للرأس ، وصلنا للتاج الذي يعلو فوق كل شيء ، أمسكته يد الخطية المذلة ، ضفرته ، مكنته من الوتد ... الجاذبية الأرضية تجذب رأس الرجل السماوي ، النذير يرهن رأس انتذاره ليد الشهوة الناعمة ، تتشابك الأفكار الطليقة الحرة مع خيوط السدى ، جذب وشد وصراع واقتلاع حتى يقوم المرة الأخيرة ...
      
أما الخطوة الأخيرة في تجهيز الكمين فهي : فقدان الاحساس بالخطر
أن يعطي الأمان الكامل ليد دليلة ، أن يخرج من الأمر مرات كثيرة كالشعر من العجين حتى يفقد شعره كله ، ويغرق في العجين الذي اختمر في نومه بخمير الغدر.
فكم من المرات قطع شمشون الربط والقيود ، وكان يعرف أنه طالما احتفظ بالسر في طيات كتمانه فسيمكنه أن يخرج ببساطة من أي أزمة ، لكنه لسانه الذي اعتاد كلمات الهوى انزلق، واندلق عمقه بالسر الرهيب دون أن يدري ...
فارتباطه بالضعيفة حل ارتباطه بالقوة ...
وهذا الانحلال لم يكن وليد لحظة ، لكنه مشوار طويل أحدره حتى أسقطه، وضيق عليه الخناق حتى خنقه ، وحاصره حتى عصره ...   
وكل صيحات الانتصار القديمة توارت وراء ضحكات الشماتة التي كانت تنتظره في المرة الوحيدة الأخيرة ...  
"وقالت الفلسطينين عليك يا شمشون فانتبه من نومه وقال اخرج حسب كل مرة وانتفض ولم يعلم أن روح الرب قد فارقه " ( قض20:16)
فما الحل ؟!
بداية، ما أن يذكر شمشون حتى يذكر شخصاً آخر ...
سيناريو قديم تطابق مع سيناريو شمشون في ذروته لكنه تباعد في آخره ..  
سيناريو لم تصوره عدسات الزمن في بيت زانية ، لكن في قصر وزير ...
لم يكن صاحب السيناريو الثاني هو الأقوى بل الأضعف بحسب المنظور الشكلي. 
فلا عضلاته ، ولا سمعته ، ولاثيابه ، ولا شعره يساوي واحد على لا نهاية مما كان عند شمشون ...! لقد فقد هذا الشاب قبل وصوله للقصر كل شيء ...
أحباؤه ، قميصه الملون ، أهله ، أرضه ، تاريخه !!
لكنه كان يحتفظ تحت جلده بسر القوة والبركة مثل ذلك السر الذي احتفظ به شمشون في فوق رأسه في خصلات شعره ... 
مع احتياج الشاب الصغير لانعاش نفسي ، رفض أن يرتو من جمال المرأة أو جسدها، ومع افتقاره للتقدير بعد خيانة أخوته له وتباعد أبوه عنه رفض أن يعيش في كرامة وتقدير صنعته له نظرات عيناها ورنة صوتها ، رفض أن يسمع لنداءها وهو في مرماها ، رفض أن تمد يدها لثيابه وهو في حوزتها كعبد من ممتلكاتها ، فلم يكن مبادراً زائراً متقرباً ، ولا متمنعاً عنها وهو الراغب ، بل كان المتباعد المتهرب .. لم يكن إلحاحها عنصر جذب ، ولا ضغط ، ولا حصار ...
لم تعرف أن تنصب توسلاتها الشرك الذي يسقط عنه عفته ...
لقد كان السر في شيئاً آخر أبعد من الشعر، والثياب ، والمكان والأنساب ..
لقد كان السر في أمانته التي ظلت قوية عفية رغم فقدان قوته البدنية التي لم تسيطر على قميصه الذي كان على جسده ، على عكس الذي امتلك القوة البدنية وفقد الأمانة
الداخلية فأضاعهما معاً ...

لقد استخدم هذا الشاب العفيف سلاحاً رادعاً للإلحاح وهو الهروب ..
فلو أن الخطية لا تمل أو تكل أبداً من تكرار الزيارة ، فأنسب شيء أن لا تجد أحداً بالداخل يرد عليها عندما تطرق على الباب .. 
وكما قال أحد الحكماء  : إن جناحي الحمامة أقوى بكثير من فكي الأسد .. فجناحي الحمامة يمكن أن يحملاها إلى مكان أبعد بكثير من أن الخوف من زئير الأسود ...

أما سلاح الردع الثاني الذي استخدمه يوسف – بطل السيناريو المشرف الأول في التاريخ - هو ما أسميه التمسك ...
لقد هرب يوسف لا إلى مكان خارج البيت، بل إلى شخص كان ينتظره بالخارج ..
ابتسامة هذا الشخص عرفت كيف تمتص كل ارتعاشة خوف ، حضنه الهادئ كان بيت يوسف ووسادته في عنبر العبيد داخل القصر !!
شخصاً استقبله ورحب به وله ـبمجرد ما وطأت قدماه أرض مصر ، شخصاً هو وطن الوحيد مثله ، برودة لأتون ظلمه . شخص -كان هروب يوسف إليه من المرأة – ربما  طريق لسجن قاسي ـ ليكن، فالسجن مع هذا الشخص بيت ، والقصر بعيداً عنه قبر .
كلما اقتربت من هذا الشخص فهمت أن للجمال معنى آخر ، فهمت أن للمتعة طعم آخر ... فهو الشخص الذي تبدو كل أمورك وأحلامك في نوره ظلال باهتة صغيرة رخيصة ، وكل سخاء الآخرين بالنسبة لجوده هو وإحسانه قروض مكلفة ، ذات فوائد مركبة ...
لكن من ترك لأجله متعة ، حصل عليها .. ومن ضحى لأجله بنفسه امتلك نفسه ، ومن أكل الخبز من بين يديه شبع دون جوع ، ومن ارتوى من مياه الحياة التي
تجمعت قطراتها في ينبوعه لم يعد بحاجة لماء آخر ...
أتعرف لماذا لا نستطيع الهروب من شهواتنا ؟! إننا نريد أن نهرب لكن لا أحد
ينتظرنا بالخارج ، لا أحد يساعدنا على تكملة المسير بعيداً عن هذا الكمين المحكم. لا أحد يعرف الطريق هروباً من أحضان دليلة الذليلة إلى سجن يوسف المشرف .
أنا معك أن الزمن قد يمثل مشكلة فالحرمان من المتعة المؤقتة قد يرمينا في سجن و
الحصول على نفس نوع المتعة المؤقتة قد يرمينا في نفس السجن الطويل ، لكن في زنزانة مجاورة ، فشتان الفرق بين الزنزانتين ، والسجان ، والنزيلان ...
الأول في مكان ضيق الجدران لكنه متسع الأركان ، لأن الرب جعل في رحب نفسه ، وقلبه ، وسع أتونه وتمشى فيه معه مؤقتاً حتى يحين موعد خروجه ...
الأول كانت عيناه مفتوحة خارج السجن، لم تغفل لحظة ... وزاد النور فيها داخل القضبان المظلمة ، فرأت الأحلام ، وفهمت الأحلام ، وتكلمت ببصيرة بسيطة عميقة مع اللواء الفرعوني المسئول عن شراب فرعون ، واللواء المسئول عن طعام فرعون ... بصيرة رأت المستقبل من خلف ضباب الحاضر ، وامسكت بنجوم الأمل من بين القضبان .
الأول دخل السجن واستلم أمور السجناء، وكان رئيساً عليهم ... لأنه كان قبل ذلك رئيساً على نفسه ...
الأول دخل السجن ولم نسمع أنه قام فيه بأشغال شاقة التي كان يقاسيها سجناء فرعون في معتقلاته السرية الموجودة تحت الأرض ...
لم يفكر الأول في انتقام ما ، لا من نفسه، ولا من الذين حوله ، إذ كان الكل في الطاحونة التي يديرها الله ، والتي يسقيها بسواقيه الملانة ماء ، والكل يخرج خيراً ، ويطرح رحمة ، ويحول الشر لخير ، والخير لبركة وتعويض ..      
أما الثاني فقد خسر عيناه قبل أن يفقأها الأعداء !!
فقد كرامته بوقت طويل قبل أن يتسلم مهام وظيفته الجديدة ( بدل ثور ) في بيت السجن .. ودخل سجن البيت مبكراً قبل أن يدخل بيت السجن ...
الأول تكلم مع النبلاء ، والثاني مع ( غلام ممسك بيده ) ...
فيا للمذلة ...!!

لذلك ..
تمسك بالرب لتعرف كيف تهرب إليه عندما يفاجئك كمين النائمين ...
تعرف به واسلم (عش في سلام ) .
تلذذ به فيعطيك سؤل قلبك .
توكل عليه ، ولا ترتبك من جهة النتائج .
اتعب في خدمته ، فتعبك فيه ليس باطل .
وصبرك له مؤمن العاقبة
وثقتك فيه لها مجازاة عظيمة
 

                                                   (2)
الكمين الثاني
كمين الاختبار
" فالآن هلم فأرسلك إلى فرعون و تخرج شعبي بني إسرائيل من مصر "خر10:3
"وحدث في المنزل أن الرب التقاه وطلب أن يقتله " خر24:4 
أمور الله عجيبة !!
استعجال يعقبه استبطاء !!
وتحفيز يعقبه تعجيز !!
اقناع لموسى بالدعوة يعقبه احجام عن قبول مهمته !!
الحاح يعقبه إرجاء !
أليس هذا عجيباً !! وعويصاً !!

في بداية اللقاء الأول يستعجل الله موسى ، ويأخذ الحديث صبغة استعجال شديد وتتكرر من الله ( الآن ) مرات ثلاث !!
والغريب أن موسى يتباطئ ويتعذر ويتلكأ ويتحجج، والله يقدم له حجة تلو الأخرى ، ودليل تلو الآخر ...
وأخيراً ، يقتنع موسى ...
ويقرر طاعة ربه طيعاً رضياً ...
ويبدأ طريق الطاعة ، وينزل الرجل لمنازلة العدو ... ومعه أوامر الله وسلطانه و عصاه !!
وهنا تحدث مفاجأة عجيبة !!
كمين يقابل موسى !!
من الذي يرتب الكمين ؟!
الله بنفسه !!
الله  ..... يريد قتل موسى  !!
فماذا يفعل به فرعون إذاً !!

تمضي الأعوام ، وتكر الأيام وأمراً قريباً من هذا يتكرر -كأنه بالوراثة- مع تلميذ موسى ( يشوع بن نون ) وهو قبالة أسوار أريحا ،قبل الاقتحام بأيام ، وكمين آخر: 

" وحدث لما كان يشوع عند اريحا انه رفع عينيه ونظر واذا برجل واقف قبالته وسيفه مسلول بيده. فسار يشوع اليه وقال له هل لنا انت او لاعدائنا  فقال كلا بل انا رئيس جند الرب. الآن أتيت.  فسقط يشوع على وجهه الى الارض وسجد وقال له بماذا يكلم سيدي عبده. فقال رئيس جند الرب ليشوع اخلع نعلك من رجلك لان المكان الذي انت واقف عليه هو مقدس ففعل يشوع كذلك"(يش13:5-16)

الأمر باختراق أريحا بعد حصارها جاء من الله رأساً ليشوع ، وقد قام يشوع من خلال جهاز استخبارات بدائي قوامه رجلين من فرقة استطلاع بالدخول وكشف المستور ..
الأمور مهيأة والنفسيات معبأة ...- تماماً مثلما حدث مع موسى قبل مواجهة فرعون – والمؤشرات في الأفق تلوح بنصر عجيب قريب ...
لكن هنا ، في هذا الوقت الحرج يقاطع الأحداث ظهور رجل مسلح أمام يشوع – وهو لا يزال بعيداً عن النزال خارج الأسوار - وسيفه مسلول بيده !!
ولماذا السيف المسلول !؟
هل كان ينقص يشوع بعض الرعب، لكي يبث في قلبه هذا الرجل الغريب بعضاً منه! ألم يتعلم يشوع جيداً من هو رب الجنود في عبور البحر الأحمر! ألم تصل الرسالة لموسى وهو يرى عصاه تشق البحر وتحيله يبساً ، وتعيده بحراً في لمح البصر ..
فلماذا يظهر الرجل المدجج بالسلاح !؟
ثم ما الذي فعله الرجل ؟!
أمر يشوع بأن يخلع حذائه من رجله لأن الموضع الذي كان يقف عليه أرض مقدسة.
هل هذا كل شيء ؟!
نعم !
ألم تكن هناك جلسات سرية مغلقة مع قائد الجيش !؟
لا نعلم !!
هل كل ما أتى الرجل ليأمر به يشوع بهذه الهيئة الرسمية ، والبدلة العسكرية ، والسيف المتلهف للدماء في اليد العفية ، مجرد أن يخلع يشوع حذائه من رجليه !! 

إن كلا من موسى أو يشوع – كل في قصته – كان مهيئاً للطاعة ، مستعداً لنصر عظيم !! وكلا منهما لم يكن يدر بخلده للحظة واحدة أن الله الذي كان يقف في ظهره، كان على وشك أن يباغته فجأة من الأمام ، ويشرع في قتله ... سواء بيديه (في موقف موسى ) أو بسيفه المسلول (في قصة يشوع ) !!

ألا يكشف لنا هذا أن طريق الطاعة الذي كتبت له نتائج تاريخية – كالتي حدثت مع موسى أو مع يشوع- لابد لرواده أن يخضعوا قبل أي أول تحرك (لاختبار هيئة) !

و(اختبار الهيئة) الذي تقوم به كليات الشرطة في بلاد العالم يأتي آخر كل الاختبارات ... ومع أنه الاختبار الأخير يكون الذي وصل إليه قد أثبت كفاءته في كل الاختبارات السابقة بنجاح ، لكن من السهل جداً – بعد وصوله أخيراً لهذا الاختبار- ألاَّ يقبل في الكلية لفشله في اجتياز هذا الاختبار !!

لهذا فـ( اختبار الهيئة ) الخاص بموسى -الذي كان على وشك أن يعزله من الخدمة قبل أن يدخلها - كان فيه كارثة !! غرلة ابنه !!
و(اختبار الهيئة) الخاص بيشوع - الذي كان من الممكن أن يقضي عليه قبل أن يحقق أعظم انتصاراته - كان فيه حذاءه !!
والأمران مخيفان !!
الغرلة والحذاء !!
موسى نفسه كان قد خلع الحذاء في أول اللقاء مع الله ، لكن لم يكن خالياً من شئ آخر كان من الممكن أن يقصيه بعيداً عن مسرح الأحداث ... وهو الغرلة !!
إن الغرلة رمز للعهد الذي أقامه الله مع إبراهيم قديماً ... هذه الغرلة هي شيء زائد عن الجسم في جزء معين ، وهو الجزء التناسلي عند الذكر ...
والعضو التناسلي في الرجل يشير إلى قوته وامتداده ولهذا أمر الرب أن يكون اعتماد الرجل بالكامل على الرب لأنه " ليس بالقوة ولا  بالقدرة بل بروحي قال رب الجنود ".
لكن موسى في أرض البرية قبل الارسالية نسى أو تجاهل هذا العهد الذي كان مصدره الله، وليس موسى ...
وعهود الله لا تسري علينا لأننا نفهمها أو نقتنع بها ، لكنها كذلك لأنها عهود الله ..
فيكفي أن إلهنا يفهمها ويحترمها ويطالبنا بالالتزام بها !!
وإذ كنا نريد أن نخدم هذا الإله العظيم فيجب أن تنطبق ناموسه وشريعته علينا نحن أولاً فالجمر التي يمسكها الملقط السماوي إما تشتعل بالكامل وإما تخمد إلى الأبد ، فلقد قال الله " في القريبين مني أتقدس وأمام الشعب أتمجد " ، ومعنى هذا أن قداسة الله في المقربين منه تأتي بالمجد بالنسبة للبعيدين عنه.
لكن موسى لم يكن يضع هذا في قائمة حساباته !! .

كم من أناس كنا نتوقع لهم أعظم الاستخدام لكنهم بكل أسف ماتوا قبل أن يبدأوا ،وضلوا قبل أن يضعوا أرجلهم على أول الطريق .. لم يستطيعوا بعد تجهيزات كثيرة ، و اشتياقات كبيرة أن يجتازوا هذا الكمين الإلهي !!
وكم من مرات أعطانا الله فرصة لنفعل بحكمة ما فعلته زوجة موسى إذ " أخذت صوانة وقطعت غرلة ابنها ومست رجلي موسى بها " لكننا تراخينا ولم نعرف " زمان افتقادنا " ... فهدمت أسوار حياتنا ، ونقضت جحارة إيماننا ...
لكن مجداً للرب !
هل تتخيل أن موسى الذي رسب في أهم الاختبارات ... الذي كان من المفترض أن يموت بسبب هذا الرسوب في (اختبار الهيئة) يعود من الموت كعريس ...  عريس دم (على حد تعبير صفورة زوجته ) ...
إن المؤمن المختتن القلب والأذن والعين هو عريس ، هو شخص معد للإثمار، و بعيد تماماً عن العقم الروحي ... والعجيب أن كلمة ( عريس ) بكل مشتقاتها في اللغة العبرية مأخوذة من الفعل (ختن)، وهذا معناه أن ما نتخلى عنه في الختان – مع أنه شيء زائد عن أجسادنا حرفياً ، وعن نفوسنا معنوياً ، فلم يسبب لنا خسارة،
ومع أن خسارته في الواقع أكبر مكسب – لكنه مع هذا يعدنا لاستقبال الثمر العظيم.
فإما غرلة ابن موسى ـ وإما قيادة شعب إسرائيل ... ومع أن الكفتين غير متساويتين لا كماً ولا كيفاً ، لكن هكذا حسابات الله دائماً .. القانون لا يتغير :
"الأمين في القليل أمين في الكثير " ...

هل أحتاج أن أسأل نفسي : لو واجهني كمين إلهي في طريق خدمتني بغرض الكشف عن حالة قلبي ، هل سيوقفني بسبب أمور لم يختتن قلبي منها ؟
هل مشاعري مختتنة بالروح القدس ، هل فكري وأهدافي اجتازت ألم الختان المقدس وتتهيأ الآن لأفراح العرس ؟ أم أني ما زلت أشفق على نفسي من الألم فتحاشيت الحسابات والإزالة ورضخت للإغراءات ...

       أما حذاء يشوع فأمره مختلف ...
لقد كان يشوع يقف على أرض معادية ، من المفترض أن أمامه أسوار أريحا بكل شموخها واستهزاءها بقدراته، أمامه تحدياً يصعب تماماً تخيله ولا سيما بعد أن تعرف أنه لم يكن معه جيش نظامي بل معه شعب متمرد غليظ الرقاب.
فماذا يمكن للرب أن يفعله مع هذا الخائف الخائر ؟
أمام أسوار الشر ، التي تفصل بينك وبين أرض هي من حقك، ماذا يمكن أن تفعل؟
أمام كبرياء التحدي ، وصمت الزمن ، وأنت في جنازة الخجل من نفسك ماذا يمكن أن تقول ؟!
لا ، لا تحتاج أنت أن تقول كلمة واحدة ..
لكن يكفي أن يأتي رئيس جند الرب ببدلته العسكرية وسيفه المسلول ...
يكفي أن يخترقك هذا السيف لتعرف قوته ، لكي تعرف بعدها أن تمسك به وأن تجربه في العدو بنفسك لكن ليس قبل أن تكون قوته قد اجتازت فيك واخترقتك ..
من هنا فإن كان قطع غرلة ابن موسى أعقبها هذا العرس الجديد ، وهذه الحياة المجيدة فبنفس الطريقة كان خلع حذاء يشوع إعداداً جيداً للمسرح الذي كان على وشك استقبال شهيداً من شهداء سيف الروح ( كلمة الله ) و هو نفسه شاهداً على نصرة الرب على الأرض ..

لقد صرنا – للاسف- محترفين في صياغة الأفكار الكتابية وتوليد المعانى من المعانى ، وربط الفكرة بالفكرة ، و حشد الآيات ، ورصد الحيثيات ، لكن أخشى أن أقول إن أول من يحتاجون لاختبار ما ينادون به هم المنادون أنفسهم ...
دع وعاظ اليوم الذين يعظون عن النصرة يختبرون ما هي النصرة بحق داخل حدود حياتهم ، واستمع إليهم بعد ذلك ... أو دع التوبة تخترق الذين يحرضوننا على التوبة ،واصغ إلى تحريضاتهم بعد ذلك ...
باختصار ... دع الذين يفتحون الكتاب المقدس ينفتحون هم أولاً أمام الكتاب ...  وقبل أن يضعوا خطاً واحداً تحت كلمة منه أن يعطوا للروح القدس الحق في أن يضع هو هذا الخط في قلوبهم ...
لقد خلع يشوع حذاءه  احتراماً لمن وقف أمامه على نفس الأرض ...
لقد خلع يشوع اتصاله بالقضية المخيفة من قرب أو بعد ووقف – كعبد- حافي القدمين على أرض سيده ... خادماً لمقاصده ، وليس طامعاً في منصب أو مكسب أو مسكن فيها ... بل منفذاً لأوامر سيده التي كانت تقضي بأن يكون يشوع قائداً يتبع قائداً أعظم ، وراعياً لا يتصل برعيته من خلال قوته بل من خلال رعاية الرب له ولهم 

 (3)
الكمين الثالث
كمين رد الاعتبار
إن كان الكمين الأول قد قام به العدو علينا ،
وإن كان الكمين الثاني قد قام به الله علينا ، 
فالكمين الثالث هو ما نضعه نحن والله على العدو  ...

لنتعلم الدرس من البداية: كن أولاً تحت حماية إلهية أمام العدو ـ فلا تدخل بيت دليلة، ولا تترك لها شعرة واحدة من رأس انتذارك ...
و ثانياً: لابد أن تكون أنت نفسك مقبول في كل اختبارات الهيئة أمام إلهك الفاحص القلوب والمختبر الكلي (العقول) ... " مقدس في عيناه ، رافض الخطية حتى النهاية ، مجاهد حتى الدم " .... هذا هو الذي يؤهلنا لأن نكون نحن ليس موضع للأكمنة ، لكن جزءاً من أكمنة الله على العدو ...
" فقام يشوع وجميع رجال الحرب للصعود الى عاي. وانتخب يشوع ثلاثين الف رجل جبابرة البأس وارسلهم ليلا واوصاهم قائلا. انظروا. انتم تكمنون للمدينة من وراء المدينة. لا تبتعدوا من المدينة كثيرا وكونوا كلكم مستعدين. واما انا وجميع الشعب الذي معي فنقترب الى المدينة ويكون حينما يخرجون للقائنا كما في الاول اننا نهرب قدامهم فيخرجون وراءنا حتى نجذبهم عن المدينة. لانهم يقولون انهم هاربون امامنا كما في الاول. فنهرب قدامهم وانتم تقومون من المكمن وتمتلكون المدينة ويدفعها الرب الهكم بيدكم ويكون عند اخذكم المدينة انكم تضرمون المدينة بالنار.  كقول الرب تفعلون. انظروا. قد اوصيتكم. فارسلهم يشوع فساروا الى المكمن ولبثوا بين بيت ايل وعاي غربي عاي. وبات يشوع تلك الليلة في وسط الشعب فبكر يشوع في الغد وعدّ الشعب وصعد هو وشيوخ اسرائيل قدام الشعب الى عاي. وجميع رجال الحرب الذين معه صعدوا وتقدموا وأتوا الى مقابل المدينة. ونزلوا شمالي عاي والوادي بينهم وبين عاي.  "

أخي ، لتجهيز كمين على العدو وللفوز بالغنيمة الرائعة التي حرمك منها العدو في حرب الاستنزاف اتبع الآتي :  

أولاً : هل مات الخائن ؟!
لا يمكن أن يجتمع الله والخيانة في مكان واحد أبداً ... أحدهما لابد أن يترك الساحة
للآخر ... فمن يعبد الله لابد أن يكون وفياً له بنسبة مائة بالمائة ... ومن يترك الله
لابد أن يتوقع الخسارة ، وأنه –لا محالة- في شباك العدو الذي لا يرحم.
الأمر الإلهي كان يتركز في أن تذهب أريحا بكل عظمة امكاناتها وأسوارها للرب أولاً ..  لابد أن تكون " محرمة للرب " .. لا أحد أحرز الانتصار، لا أحد أسقط الأسوار ، فالموقعة الأولى من حق الرب بكامل ما فيها ...
وإذ أخذ الرب حقه أولاً أعطاك بعد ذلك كل شيء ... فلا شيء يصير من حقنا إلاًّ
بعد أن يقع أولاً في يد الرب ...
لكن حدثت خيانة عاخان الشهيرة عندما سرق بعض الأمور البسيطة وخبأها داخل
خيمته .. هذا اعتبره الرب سلب جزء من الغنائم .. فمع أن المسروق بسيط نسبياً ، ولا يساوي شيء بالنسبة لما قدم للرب ، لكن مقاييس الله ليست نسبية إنما مطلقة ..
ولقد حدثت خيانة شبيهة في بداية أيام الكنيسة الأولي، والقصة شبه متكررة ، لكنها كانت أصعب ( أع5) ..
ففي قصة عاخان كان الكل ملكاً للرب، و عاخان كان سارقاً من هذا الكل ما لا يخصه .. يستحق الموت ...
أما في قصة حنانيا وسفيرة كان الكل ملكاً لهما ، لم يطلب منهما أحد أن يبيعا شيئاً أو أن يقدما شيئاً للكنيسة ... لكن لمجرد أن حنانيا أعتبر أنه قدم الكل وأخذ الجزء خلسة ، سقط ميتاً هو أولاً وزوجته من بعده ...
وماذا عسانا أن نقول إذ سألنا الروح القدس نفس السؤال الذي سأله بطرس لسفيرة " أبهذا المقدار بعتما الحقل ؟ " فإذ قال لك الروح القدس :
أبهذا المقدار من الوقت تعهدت أن تخدم الرب  ؟!
أبهذا المقدار من الصحة قدمت مجهودك للرب ؟!
أبهذا المقدار من المجد الذي نلته أعدته من قلبك للرب ؟!
أبهذا المقدار من السخاء كان عطاءك للسيد ؟!

أخوتي الأحباء
هل هناك خيانة وسط الصفوف!!
ربما !!
يجوز كان أمهال الله الطويل بالنسبة لنا فرصة أن نراكم خيانة على خيانة ، وهزيمة
على هزيمة وخسارة ، ومرارة ، ومع هذا لم نعد حتى نسأل : لماذا يا رب ؟!
لم نسقط على وجوهنا ، ونبكي بمرارة من تفاجئ في طريق المشيئة بالهزيمة !
ليمت إذاً الخائن ، لتكشف كل أوراق الخيانة ، ليدخل القفص ، وليخرج المدفون داخل الخيمة ليسقط بدلاً منه الخائن في نفس الحفرة ...
في نفس المكان الذي استقبل لذة الخيانة ، لابد أن يدفن فيه عارها ..
في نفس المحلة التي تكدرت بخيانة عاخان ، لابد أن يدفن فيها المرارة ..
لابد أن يكون الحكم من الداخل قويا عفياً واضحاً ، قبل أن نسمع صوت النصرة والفرحة من الخارج ..
لابد أن يرد المسلوب أولاً ، قبل أن ترد الكرامة ...
  
ثانياً : عد مرة أخرى لنفس الموقعة الأخيرة ...
" فقام يشوع وجميع رجال الحرب للصعود الى عاي."
الله لا يزال ينتظرك عند نفس النقطة الأخيرة فهو لا ينسحب من مواقع الهزيمة بعد أن ننسحب نحن ... بل يظل واقفاً فيها مصراً على عودتنا بعد تصفية بعض الحسابات ، لكي نكتب تاريخ انتصاره على تقويم هزيمتنا ...  
فـ(عاي) لا يمكن أن تستعصي على الرب ... حتى وإن شهدت هزيمتنا المنكرة قبل ذلك " ليقل الضعيف بطل أنا بالرب " ...
إن علم الشهادة الذي نكسته أو طمست ملامحه من حياتك وجعلت بدلاً منه في يدك
المتخاذلة راية صغيرة بيضاء ، نسجتها بلون سلبيتك ، ورفعتها بدافع خوفك من المزيد من الهزيمة ، لابد أن تعود –مرة أخرى- في يدك المرفوعة علماً عالياً ...
الرب لا يمكن أن يهزمه ما يهزمنا ...
الرب هو القدير في الحرب ...
فلنعد بعد الحكم على الخيانة الداخلية في حياتنا ، للرب ...
ولنعد مع الرب للحرب الروحية ...
دعه يعاتبك يا بطرس قبل أن يكلفك ... فتكلفته لا تلغيها خيانتك ... 
دعه يراجعك يا توما قبل أن يرسلك ... فإرساليته لا تعطلها شكوكك ...
دعه يستوقفك يا مريم قبل أن يرجعك ببشرى القيامة ...فبشراه لا تجرفها دموعك.   
دعاه يشرح لكما الكتب يا تلميذي عمواس قبل أن تعاودا أدراجكما لأورشليم في نفس اليوم ... فعودتكما إلى مكانكما ومكانتكما لا يوقفها انسحابكما ...

ثالثاً : انتخب رجال
لقد كان الرجال الواقفين مع يشوع كثيرين عدداً ( 30 ألف رجل )، وكانوا متميزين نوعاً ( جبابرة بأس ) ... ومع أن الله رفض عدداً مماثلاً للدخول في الحرب مع جدعون ، لكن هنا لم يحدث هذا ...
فالخروج من الهزيمة يحتاج عزيمة ... والعزيمة تحتاج أن تسخر كل ما تملك من قوة  داخلية وعتاد روحي للخروج من مأساة الهزيمة ...
هل تذكر معي قبل السقوط أمام عاي ، لم يكن الأمر يستلزم كل هذا العدد من الرجال .. قبل دفع ثمن الخطية لا يحتاج الأمر في الخدمة كل هذا الصوم والتذلل أمام الرب ، لكن بعد أن حدث هذا يجب أن تتحذر لأن الثمن مكلف ليس وقت المواجهة فقط ، لكن وبعدها أيضاً ... فتتابع الانتصار بانتصار والمجد بمجد شيء ، وأن تتابع القمة بقاع ، والنصر بكسر شئ آخر ...

رابعاً : دع قوتك في الخلف واستعرض ضعفك من الأمام :
"انظروا. انتم تكمنون للمدينة من وراء المدينة. لا تبتعدوا من المدينة كثيرا وكونوا كلكم مستعدين. وأما انا وجميع الشعب الذي معي فنقترب الى المدينة ويكون حينما يخرجون للقائنا كما في الاول اننا نهرب قدامهم فيخرجون وراءنا حتى نجذبهم عن المدينة.  لأنهم يقولون أنهم هاربون أمامنا كما في الأول "

لقد كانت هناك هذه الخبرة القديمة عند سكان عاي تجاه الشعب .. لقد هاجموهم أولاً فهزموهم ، وهزيمتنا مرة واحدة أمام العدو تجرئه علينا المرات التالية .
العدو يتصور أننا عدنا بكبريائنا المجروحة لثأر قديم دون أن نعيد ترتيب صفوفنا، عدنا ضعفاء مكسروين قبل أن تندمل جروحنا ، إذ أننا لم نأخذ وقتاً كافياً -في نظره - لتجرع مرارة الهزيمة وهنا يأتي الوقت لعمل كمين على كبرياء العدو ... وهذا ليس الكمين الأول الذي عملناه للعدو على كل حال :
فالكمين الأول عملته نقاوتنا وتوبتنا في مواجهة هزيمته لنا بسبب تعدينا .. يوم أن دفنا الخائن ..  
والثاني عملته عودتنا في مواجهة خسائره التي كبدها لنا يوم أن أخذنا أمر الرب بالعودة لنفس المكان ...
والثالث عمله اتضاعنا عندما كشفنا أمامه الجزء الضعيف الذي جعل كبرياؤه تثور لمطاردتنا ، بينما ابقينا قوتنا من الخلف ...
اسمع معي يشوع يعطي الأوامر لرجاله :
" .... يقولون أنهم هاربون أمامنا كما في الأول ... "
تعلم أنه لابد ألاّ تفقد أو تطمس شكل الهزيمة الأولى من ذاكرتك الروحية ...
أحذر أن تنسى كيف سقطت المرة الأولي، هل كان السبب كبرياؤك التي رفضت أن تستمع للنصيحة ، هل كان تسرعك في أخذ قرار ضد الوصية الصريحة ؟!
ثم عندما يتكرر الهجوم تعلم أن يكون العدو هو الذي سقط في الكمين ، فلا تتصرف أمامه بسذاجة من لم يتعلم الدرس، لكن لقنه هو الدرس الخطير أن قدرة الله التي تختبئ خلف كبرياؤه الفارغة و ستدمرها ، وهي القوة التي لا تحتقر ضعفنا المخجل بل تغطيه بنعمة المسيح المنتصر ...
فمع أن تفاصيل سيناريو الهزيمة تبدو هنا متكررة ، لكن خطة الله التي لا تعرف الفشل تستطيع أن تعيد الأحداث إلى وضعها الصحيح بعد أن تصنع كميناً على شرف العدو لتقودنا في موكب النصرة، بنفس السيناريو الذي كتب هزيمتنا المرة الأولى ...
       
خامساً : اتخذ موقعك الصحيح وتأكد أن الرب في موقعه الصحيح 
ترتيب الكمائن ليس سهلاً أبداً ...      
لقد بات الرجال الأشداء بين بيت إيل وعاي ، بينما نام يشوع في تلك الليلة وسط الشعب ...  
وهذا يذكرني بموقع قديم جداً ، موقع خيمة الرجل العظيم ... إبراهيم ...
فأبونا إبراهيم نصب خيمته ومذبحه قديماً في نفس المكان ...
إن مكان المذابح الحقيقية هو مكان المنابع القوية للمؤمن ، وهو نفسه مكان الهزائم الشقية لإبليس ...   
لهذا فكلما كانت مذابح صلواتنا مرممة ، وهياكلنا مقدسة غير مدنسة ، وسرجنا مضاءة غير خامدة كلما كانت انتصاراتنا متواصلة غير متوقفة ..
لكن على أي حال هناك بين الهزيمة والنصر ليلة ...
هي ليلة الإعداد والاستعداد ... ليلة فيها كل شيء لابد أن يأخذ موقعه الصحيح ...
ومع أن كل شيء في تلك الليلة كان يكتسي بسكون مهيب ، لكنه كان الهدوء الذي يسبق صيحة نصر الصباح الوضاح القوية ، الصيحة التي تأخر سماعها في وقتها ، الصيحة التي خنقتها مرارة الهزيمة ، وشلها في الحناجر صمت العزيمة  ...
في هذه الليلة ضع رجالك في أماكنهم ... جهز الأمر، رتب الأوراق ، استعد لصباح يأمرك فيه الرب بالتحرك أو الهجوم على العدو ...
في ليلة مماثلة بقى يعقوب وحده ، وفي ليلة مماثلة استسلم المسيح لإرادة الآب قبل الصليب، وفي ليلة مماثلة حدثت زلزلة عظيمة وانفكت قيود الجميع ...  
فهل في حياتك مثل هذه الليلة ؟
وهل تحتاج حياتك إليها الآن ؟ 

دع الرب أن يكون في مركز الاحداث والتركيز والانتباه ، كما بات يشوع وسط الشعب ..
إن الشعب يحتاج ليشوع شخصياً ، ويحتاج أن يراه في هذه الليلة في الوسط والمركز  " فلا يتزعزع لكي يعينه عند إقبال الصبح " .. فغياب يشوع من هذا المكان قد يشتت
قوتهم ، قد يضعف عزيمتهم ...
لابد أن تتأكد أنه هناك ..
سيأتي كوكب الصبح ...
خروجه يقين كالفجر ...
ستشرق شمس البر والشفاء في اجنحتها ...
سيعود ليرحمنا ، سيعود ليصنع من فساد ماضينا وعاءاً آخر ، سيعود ليحيينا ... 


سادساً : أحرق المدينة
كانت (عاي ) بالنسبة للشعب وطن العار وعنوان المرار !!
فضعفها – بالنسبة لمستوى أسوار أريحا- كشف خيبتهم الثقيلة ،
فصار اسمها وصمة رهيبة وبصمة كئيبة في تاريخ هذه الأمة العظيمة .
وهناك- بالمثل- مواقع في حياتنا مثل (عاي)، كلما تذكرناها فقدنا أنفسنا عند بواباتها ، وكلما اقتربنا منها جذبتنا شباكها وشراكها ، أي نعم أننا قد اجتزناها –بنعمة الرب – لكنها إلى الآن لا تزال حية في صورة :
علاقات يمكن أن تعود ،
        ذكريات يمكن أن تنشط ،
                أيدي مترددة يمكن أن تعاود الطرق على نفس الأبواب ...
وهذا معناه أننا لا زلنا في مرمي عاي ، ولا زالت عاي على استعداد أن تقوم مرة أخرى بجولة جديدة وهي محصنة في مكانها داخل ذكرياتنا ، وخامدة كبركان يمكن أن يعاود الثورة وفي أي وقت ولأي سبب .
فالجرح الذي أحدثناه فيها كان حقاً عميقاً لكنه لم يكن مميتا ... لذلك فترك عاي كذلك دون أن تحرق بالنار ، لهو كمين يصنعه الشعب لنفسه اليوم ليسقط فيه في المستقبل ...
وبنفس الطريقة ، فالإبقاء على أنواع معينة من العلاقات في هامش صفحة اليوم الحالية قد يجعلها تتصدر قائمة العناوين في صفحة الغد التالية ...
لهذا فالكمين المختبئ في الخلف لابد – كأمر الرب – أن يحرق المدينة عن آخرها فلابد أن تأتي نار الروح القدس الكاشفة لتنير عينك على خطورة الإبقاء على عاي.
ولابد أن تشعل الموقعة في فكرك بنار الروح القدس الممحصة ، التي لا تتباهى بالإبقاء على ملك عدو على قيد الحياة ، لئلا يحدث معه كما حدث مع أجاج ملك عماليق الذي أتى منه هامان الأجاجي وقد عزم على الثأر لجده من نسل اليهود جميعاً. لابد أن تأتي نار غيرة الروح القدس لتنقينا من أي ذكريات عالقة أو باقية لتكون التصفية نظيفة تماماً ...

تعال الآن عظم الرب إلهك معي ، عظمه من كل قلبك ..
فلولاه لابتلعونا أحياء في أول مواجهة ، وكم من كثيرين غيرنا أقوى منا ضاعوا قبل يجدوا الطريق حتى للفرصة الأولى ..
لكن لأنه كان معنا ، جعل لنا بقية ، وكان لنا مسنداً عفياً ، وظهيراً قوياً ..  
علم يدي القتال ، وأصابعي الحرب
كم احتملني رغم غباوتي
و انتظر علىَّ رغم استعجالي
كم لصق نفسه بي بأمانته رغم خيانتي
وأمسك بيدي رغم أنها تعمدت أن تمسك مراراً بغيره
وكم رفع رأسي رغم أني نكستها في جبني وخوفي
فمن يجرؤ أن يكتب في سجلاتي كلمة (نهاية) بدون إمضاؤه
وحتى إن جاءت النهاية فأواخرنا أعظم من أوائلنا
ها هو الآن يصنع لنا أمراُ عجيباً في برية تيهاننا ، وفي سراب أحلامنا ، وفي معسكرات أسرنا ،
فهو الرب ، رايتنا وقوتنا ونصرتنا ..  
هو الرب علمنا المرفوع
وصاحب الصوت المسموع
وهو التاج الموضوع
على رؤؤسنا
هو الرب
مانح العفو الحالي
ومسير العز الجاري
وضامن النصر الآتي ، هو عزنا
هو الرب
سنيدنا الشديد
شفيعنا المجيد
وصديقنا اللصيق ، وهو احتمائنا
هو الرب
سامع الصلاة
فاهم الدعاء 
نصير الودعاء ، هو فخرنا
هو الرب
ما لنا سواه
وهو في علاه
مرسى للنجاه ،
له حمدنا 
له شكر قلوبنا و تعظيم أرواحنا  ..  
 وفيق رمزي ... 


هناك تعليق واحد:

  1. هذا ليس مجرد موضوع ، إنه كتيب كنت قد كتبته ، وفد سمح الله بألا ينشر في ورق ، ربما لكي يتيح لأي شخص من تقريباً 3000 صديق لي على الفيس بوك ، قراءته ... يمكن لأي شخص تحميل هذا الموضوع على كمبيوتره الشخصي أو إرساله لآخرين ... ربنا يبارككم ... وفيق

    ردحذف