الجمعة، 3 فبراير 2012

محاكمة الخائن ( مسرحية كتابية )



        محاكمة الخائن
مسرحية
وفيق رمزي




مقدمة
      " لا تتعب نفسك ، أنا أعرف نفسي ، لا فائدة من كلامك " !!
       
       مضى على حديثي معه قرابة نصف ساعة ، أنصت فيها لكلامي بكل صبر ، ولكن نظراته كانت تحمل الكثير والكثير من الاعتراض، و الامتعاض ، أو ربما العناد ...
إلى أن فجَّر أخيراً هذه المفاجأة ... التي لم تكن تحمل مني بعدها سوي وقت من الصمت ... أفكر في رد ، أو أحاول أن أستلهم أي فكرة تفك كل العقد ، ولكن يبدو أنه عجل بالنتيجة ...
وطال صمتي ...
وابتسم هو كمن فاز على خصمه من ضربة واحدة ، قاضية ...
لم أكن عاجزاً عن الرد ، بقدر ما كنت مصراً على الوصول للحقيقة :

لماذا نحاول من جديد طالما نحن نفشل ؟
لماذا نبدأ مع الله بداية لا تستمر أكثر من ساعات ، وتموت ...
وكل اقتناعاتنا لا تبدل شيئاً ... لا منطق يمكن أن يقاوم التراجع ...
لماذا يكون نصيبنا من محاولات التوبة الحقيقية هو الوقوع ، وعدم الاستمرار ...
هل الله شخصياً يلعب دوراً خفياً في الأمر ، إذ أنه يساعد تائبون ويترك
آخرين للسقوط ؟
يا ليتنا نعرف ما هي الحقيقة ، وقتها ، سيبطل العجب إذ نعرف السبب .

تركت حلبة الحوار لصديقي ، يخرجني منها كما دخلت .. أو ربما أسوأ وأضعف مما دخلت ...

حائراً في أمره ، وأمري ...
وفي أمر كل تائب ، متراجع ...
وكل شخص أمين خائر ، ومنسحب ...
وكل خادم سقط ، وفشل في خدمته بسبب خطية سيطرت عليه وقتاً ما ..

لهذا ...
إليك يا صديقي ( م. م. م ) أهدي هذه المحاولة لمعرفة أسباب توبتك المرفوضة ...
ليس من الله ، ولكن منك أنت شخصياً قبل أن تصل إلى الله ...
لأني متأكد أن الله لا يرفض توبة أبداً ... 
فلنتعلم كيف نتوب ...
فما أكثر ما تبنا ، توبة مزيفة ...
وكانت النتيجة ، المزيد من الفشل ...
والمزيد من القساوة الداخلية  ...





الورقة الأخيرة
من
مذكرات خائن


" حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه انه قد دين ندم و رد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة و الشيوخ  قائلا قد أخطأت إذ سلمت دما بريئا فقالوا ماذا علينا أنت أبصر فطرح الفضة في الهيكل و انصرف ثم مضى و خنق نفسه فاخذ رؤساء الكهنة الفضة و قالوا لا يحل أن نلقيها في الخزانة لأنها ثمن دم  فتشاوروا و اشتروا بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء لهذا سمي ذلك الحقل حقل الدم إلى هذا اليوم حينئذ تم ما قيل بأرميا النبي القائل و اخذوا الثلاثين من الفضة ثمن المثمن الذي ثمنوه من بني اسرائيل و اعطوها عن حقل الفخاري كما امرني الرب "                       (متى 3:27-10)
الادعاء : يهوذا الاسخريوطي ...
بطل رواية الخيانة على مر العصور ...
نموذج الرياء ، وعنوان النكران وعدم الحياء ...
و صاحب أشهر قبلة غدر في تاريخ الصداقة والوفاء ...
التلميذ الذي أنكر معلمه ، فباعه ، وقبض الثمن ...
وفعلها بعده مثله كثيرون ، ليقبضوا نفس المكسب الذي يتحول في أيديهم آخر الأمر ، لثمن الانتحار والحكم على النفس بالإعدام ...

الدفاع : يهوذا الشخص الذي أثار جدل المفكرين ، وأسئلة المتأملين ،
فهو يقف فريداً منفرداً عن كل رجال التاريخ ...
إذ هو الذي " أكل خبز المسيح ، ثم رفع عليه عقبه "

الادعاء : هو صاحب أشهر أبغض صفة ولقب " ابن الهلاك " ...
وحقاً استحق عن جدارة أن يكون كالغصن الذي يقطع من الكرمة الحية ويكون قطعه منها هو نقطة البدء للثمر الكثير ...
وبمناسبة الحديث عن الإسخريوطي ...
الدفاع : وقعت في يدي منذ وقت ليس بعيد قصيدة للشاعر المصري / صلاح عبد الصبور ، عن يهوذا .. عنوانها " حكاية قديمة " 
استصدر الشاعر فيها أخيراً قراراً بتبرئة يهوذا من فعلته ...
بل وتكريمه ، ونفي كل الصفات السيئة عنه ...
وسأل الشاعر في آخر القصيدة ...
من الذي أحب المسيح حقاً ،
هل الذي خسر حياته كلها وانتحر ، من أجل فعلة واحدة طائشة ؟
أم الذي أنكره مرات ثلاثة ، دون حتى أن يقبض فيه ثمن ، وأخيراً صار
هو الرسول العظيم ، بطرس ..
فأي منطق يدفعنا لإكرام الجبناء ؟؟
إليك نص القصيدة ...


                                    حكاية قديمة
" .... كان له أصحاب
وعاهدوه في مساء حزنه
ألاَّ يسلموه للجنود
أو ينكروه عندما
يطلبه السلطان
فواحد أسلمه لقاء حفنة من النقود
ثم انتحر
والآخر أنكره ثلاثة
قبل انبلاج الفجر
وبعد أن مات اطمأنت شفتاه
ومشي مكرزاً مفاخراً بأنه رآه
و باسمه صار مباركاً معمداً

والآن يا أصحاب
أسألكم سؤال حائر
أيهما أحبه
من خسر الروح فأرخص الحياة
أم من بني له معابد
وشاد باسمه منائر
قامت على حياة
نجت لأنها تنكرت

والآن يا أصحاب
أيهما أحبه
أيهما أحب نفسه
أيهما أحبنا !! "
                           ديوان الأعمال الكاملة
                        للشاعر/ صلاح عبد الصبور
والشاعر أيضاً له منطق ...
فيهوذا - مقارنة ببطرس- ملاك   ...
وأي ملاك ... !!!
باع يهوذا مرة ... بطرس ثلاثة ...
يهوذا باع بقبلة ... بطرس بحلف وسب ...
يهوذا باع من أجل 30 من الفضة ... بطرس لم يقبض أي ثمن ...
يهوذا باع من أجل رؤساء الكهنة ... بطرس باع من أجل جارية ...
يهوذا آخر الأمر رد الفضة ... بل وطرحها في الهيكل بعدما اعترف أنه
"أخطأ " ... أما بطرس فلم يصدر منه اعترافاً واحداً بخطأ ، لكن يمكن أن تقول رثاءاً في دموعه المرة ..
ويا لسخرية الأقدار !! فبطرس هو الذي تولي أخيراً إصدار الحكم على يهوذا ، وكان نص الحكم  :
" اذ كان ( الكلام على يهوذا) معدودا بيننا و صار له نصيب في هذه الخدمة ...
فان هذا اقتنى حقلا من أجرة الظلم و إذ سقط على وجهه انشق من الوسط فانسكبت أحشاؤه كلها ...
و صار ذلك معلوما عند جميع سكان أورشليم حتى دعي ذلك الحقل في لغتهم حقل دما أي حقل دم ...
لأنه مكتوب في سفر المزامير لتصر داره خرابا و لا يكن فيها ساكن و ليأخذ وظيفته آخر " .

ألم يكن من المنطقي أن يحدث العكس ... ؟
أن الذي يحكم هو يهوذا على بطرس ...  
لا أخفي عليك ، عندما قرأت قصيدة صلاح عبد الصبور، انتابني الذهول ..
قررت أعيد فتح ملفات القضية ...
قررت استرجاع الملفات من أرشيف المحكمة الإلهية ... أدرس المستندات ،
أو أعيد قراءتها مرة أخري كمحامي لابد أن ينصر الحق حتى ولو على حساب التاريخ ، أو التقاليد ، أو نفسه ...
يهوذا ، أخطأ ... هذا أمر لا جدال فيه ...  
لكن ، خطأ أقل من أن يستحق عليه كل هذا العذاب ...
يشنق نفسه ، ويطرح في الهاوية إلى هذه اللحظة ...
هذا كثير ... !!!
ثم ، من الذي حكم عليه بهذا الحكم ؟
الله ، أم يهوذا نفسه ..؟
أم نحن ... ؟

وأخيراً ... هل نطلب استئنافاً ؟
ونستدعي المتهم ، والشهود ...
ونطلب من عدالة المحكمة إمهالنا فرصة أخيرة ، نزيهة لعرض الأمر ...
أم نستدعي النص ، أصدق الوثائق المتاحة ...
  

الخائن التائب ...
الدفاع :        أولاً سيادة القاضي : ماذا يقول النص عن المتهم بعد ارتكاب الخيانة العظمي بحسب رواية متي البشير؟
" ... ندم ... ورد الثلاثين من الفضة ... وقال أخطأت "  ...
وكل ابن آدم خطَّاء ...وخيرهم من تاب ...
إذاً ... فها هو يندم ...ويرد الذي أخذه ... ويسجل على نفسه اعترافاً بالخطأ ... في الوقت الذي لم يجرؤ بطرس على فعل شيء مثل ذلك ...
أو لا نأخذ كل هذا بعين الاعتبار ...
أوً ليست هذه توبة ...
وما هي التوبة ؟
أليست هي شعور بالندم ... ورد الشيء لأصله ... والاعتراف أو الاعتذار الشفاهي.
وقد فعلها كلها المتهم يا عدالة المحكمة  ...
دون إجبار من أحد ...
وألتمس منكم أن أضيف إلى دفاعي عنه شهادة أخري تنفي من عليه صفة المسؤولية إلى حد كبير " أن الشيطان بنفسه دخل فيه " ... وهل يقوى الإنسان بضعفه أن يغلب الشيطان ...
أضيف أيضاً .. أن كل ما فعله يهوذا هو أنه قام بالدور الذي كان مقرراً أن يحدث .. فقد صدر شبه تكليف رسمي له بقلم الوحي في العهد القديم أنه سيخون المسيح وهذا التكليف موثق من أنبياء العهد القديم ..
أيخالف يهوذا تتميم النبوات ... ؟!
إذاً فهو تحت سيطرة الشيطان من ناحية ، ومسيراً لتنفيذ النبوات من ناحية أخري ... وساقط أمام بعض الإغراءات التي نتعرض نحن لها كل يوم وضعف بشريته من ناحية ثالثة ... إنها الأسباب الثلاثة التي يسقط بسببها كل منا كل يوم في عشرات الأخطاء .
إننا كلنا – يا عدالة المحكمة- في نفس القفص القديم مع ممثلنا يهوذا ...
نقف مذعورين بجواره ... وفي صفه ، وإلى جانبه ...
أليس من العدل أن يكون الخطأ الواحد الذي يقترفه المتهم ، وهو بهذا الكم من الندم حتى يشنق نفسه تماماً يستحق أخيراً بسببه الإعدام الأبدي ...

وأرجو من عدالتكم أن تأخذوا بعين الاعتبار أن الحكم النهائي اليوم في هذا الاستئناف قد يغلق الباب على الملايين معه ، أو قد يفتح الباب أمامنا جميعاً أنخسر ملايين بسبب الحكم على واحد ...
أم نكسب الواحد والملايين ، ويتعظم الله أرحم الراحمين ...   

و إلاَّ فإني أخيراً استسمح عدالتكم أن يعامل بالمثل ...
فإني أري أن رحمتكم قد شملت من ارتكب نفس الخطأ وبدرجاته الأفظع كما ذكرنا آنفاً في ثوبها الواسع الفضفاض .
فطمعاً مني في واسع رحمتكم ، وعظيم غفرانكم أطالب بالبراءة ليهوذا ... ولكل خائن تائب مثله ... 
ولكم جزيل الشكر ...
القاضي : يسمح للادعاء أن يتكلم ...

الادعاء: سيادة القاضي ... هيئة المحكمة الموقرة ... حضرات السادة الحضور،
منذ قليل ، وقف زميلي (الدفاع) يطالب بتبرئة يهوذا من جريمته ، مستنداً على حجج قوية ، وعلى أمثلة حية تثبت بدون شك أن رحمة القاضي يمكن أن تشمل يهوذا ، وأن شخصاً مثله كان أولي بالمدح لشجاعته - التي بها خنق نفسه- ، مفضلاً الموت على أن يعيش وخيانته تلاحقه ...
ومستنداً أيضاً على بعض الأعذار الأخرى ، أي أن يهوذا كان مسيراً بقوة دفع رهيبة
لينفذ فعلته ، وهذه القوة ثلاثية المحركات ، أولها النبوات التي وردت عنه في العهد القديم ، وثانيها الشيطان شخصياًً متدخلا ًبنفسه في المشهد وهذا هو المحرك الثاني ، وثالثها هو ضعفاته الشخصية ( أمام المال ) كإنسان طبيعي لا يخلو من الضعف ...
    واستطرد الدفاع بأن هذه المحركات الثلاث للخيانة هي ظروف لا تخص يهوذا وحده بل ملايين في طول التاريخ وعرض العالم ... وهي بالأولى :
القدر ، والشيطان ، والظروف المحيطة التي تكشف ضعف الشخصية .. بل وأحياناً تضعف مقاومته ...  

لكنني أيضاً أستند من خلال الوثائق التي معي وهي بالتحديد الرواية الأخيرة التي وردت عن هذا الخائن وهي أصدق رواية ... أستند – يا سيادة القاضي – على أربعة أسباب تثبت عليه الحكم ، وتبرئ ساحة القضاء من أي شبهة زيف أو محاباة ... لكي يستد كل فم ويصير كل إنسان تحت قصاص من الله ...  وإن كانت عدالتكم – يا سيادة القاضي – ليست مطالبة بمناقشة الحيثيات ، ولا فتح باب جديد للمرافعات ، فمن هو الإنسان ، حتى يشكك في نزاهتكم المطلقة وكيف يتبرر كل ذي جسد أمامكم ، لكنك – إذ تسمح لنا أن نفند دعوى الدفاع الآن ، تفعل هذا على سبيل تقديم فرصة لكل من لم يغلق عليه باب القفص الأبدي (   ) مقيداً في الظلمة الخارجية (       ) بعد صدور الحكم عليه ... لكي يراجع الباقون أنفسهم ، وبدلاً من أن يقف الواحد منهم وراء أعذاره الباهتة  أو مبرراته الخائبة أو منطقه الساذج ، يأتي حالاً وبسرعة لينال البر ، والعفو عن الخطايا الماضية ، وأنا بدوري أشجعه أن عدالتكم ستعتبر أن كل ما فعله أي منهم مخالفاً لقانونك السامي أنك ستعتبره حدث " ... في جهل في عدم إيمان " وأنكم – لو سمحتم لنا – كما أعلنتم في غير موضع " ...  ستتغاضوا عن أزمنة الجهل " ... بل وفي عظيم كرمكم وسخائكم " .. ستعوضوا لهم عن السنين التي أكلها الجراد"
هذا – طبعاً – فقط لو عادوا قبل فوات الأوان تائبين ... مقرين ومعترفين بخطاياهم ، وقابلين فداء المسيح لهم ، وكارهين للخطية من قلوبهم ..   
والآن ، لتسمحوا لي بعد هذه المقدمة المسهبة أن أبدأ بعرض حيثياتي أنا الآخر ، بدون
إطالة ... 

أولاً : التوقيت ...
الادعاء : لو تكرمت يا حضرة الدفاع ، عندي سؤال لك :
- الدفاع : تفضل يا سيدي ...  
- الادعاء : متى تاب موكلك يهوذا ؟!
- الدفاع : حدث هذا قبل موت المسيح بساعات طويلة ، وهو يثبت بهذا أنه أستدرك خطأه مبكراً جداً ، وحاول بأسرع ما يمكن أن يصلحه ... أنا أرى أن يهوذا لم يتراجع عن أن يأخذ خطوة التوبة في أفضل موعد .
- الادعاء : وهل هذا ما يقوله متى في روايته التي نستند عليها جميعاً في إصحاح 27 وبداية من الآية 3 ؟
- الدفاع : وهل لك رأي آخر في هذا ؟
- الادعاء : إن متى يقول " لما (أو عندما) رأي يهوذا الذي أسلمه أنه ( الكلام على المسيح) قد دين ندم ......الخ " ...
أي أن يهوذا كان يراقب الأحداث ، وكان يتابع التطورات عن قرب ، ولكنه في لحظة صدور الحكم حدث وكأن شيئاً أعاد له عقله في رأسه ...
فهل يمكن أن تخبرنا ما الذي أغاب عقله قبل ذلك ،ولماذا يعود إليه الآن بالذات؟ 
-   الدفاع : عندي تفسير لهذا ... من دراستي المدققة لشخصية موكلي يهوذا ، ولأشخاص كثيرين مثله يتبين أنه – وكثيرين مثله طبعاً – يحسب ألف مرة خطوة الخطأ قبل أن يقدم عليه  ...
-        الادعاء : فكيف حسب خطأه هذه المرة ؟
-        الدفاع : لقد فكر يهوذا قبل الخيانة في هذا السيناريو ...
إن من يعرف تاريخ حياة الرب يسوع ليس بغريب عليه أن يرى أنه تعرض لمحاولات عديدة للقتل ، بدأت بهيرودس الباطش ، وامتدت لأشخاص كثيرين أقل منه شأناً بعد ذلك ، تقريباً تعرض الرب لمحاولات اغتيال ستة مرات ...
في كل مرة منها كانت الظروف مهيأة تماماً لقتله لكنه كان يفلت من الموت بكل بساطة ... لكن هذه المرة – الأخيرة بالذات– كانت الظروف غير مناسبة تماماً – بحسب وجهة نظر موكلي طبعاً – لموت المسيح ، فيهوذا قد سمع أن قادة اليهود في جلساتهم السرية المغلقة قالوا فيما بينهم "لا نقتله في العيد لئلا يحدث شغب في الشعب" إذاً ففرصة تسليم المسيح إلى أيديهم لا خوف منها إذ أنهم لا ينوون أن يقدموا على شيء ما يضر به ...
-        الادعاء : إذاً لماذا سلمه إلى أيديهم ؟
-        الدفاع : من أجل ال30 من الفضة وفقط ؟
-   الادعاء : إذاً فهي صفقة مزدوجة ، يقبض مبلغ إن لم يأخذه هو أخذه غيره ، ومن ناحية أخرى هو يضمن بنسبة كبيرة جداً أن الرب في مأمن من أيديهم .
-    ..... لكن لما حدث ما لم يكن في الحسبان ، وحكم على رئيس الحياة بالإعدام ، أفاق يهوذا لنفسه وشعر بأن الفأس وقعت في الرأس ، وأن ما كان يعتقد أنه مجرد استغلال للظروف ، صار اصطياد في المياه العكرة وانقلب المخطط  عليه – كما ينقلب السحر على الساحر ...
- وهل بهذا المنطق ينفع أن يتوب الخائن بعد أن يرى أن خيانته قد ظهرت على السطح ، وأن بريئاً قد ضاع بسببها ...
-        الدفاع : أمراً آخر يا حضرة المدعي يفسر لك هذا أيضاً  ..
-        الادعاء : تفضل ....  
-   الدفاع : لماذا لا نقول أن موكلي يهوذا كان ينوي أن يدفع المسيح – بطريقة عكسية – أن يبين لليهود أنه هو المسيا المنتظر ، وأنه كان يهيئ له أفضل فرصة للإعلان المبكر – وخصوصاً قبل عيد الفصح – وبطريقة من طرقه المعجزية أنه هو ملكهم  ...
ففي حالة القبض عليه ، يمكن أن يقهر قوتهم ، وأن ينصب نفسه ملكاً بالقوة عليهم ، وقد كانت الجماهير من أيام خمسة تهتف له ، وبهذا يكون يهوذا قد قدم خدمة جليلة لأبناء وطنه ... إذ قاد المسيح لموكب الملك عن طريق هذا الخطأ ... والغاية كثيرا ما تبرر الوسيلة ...
-   الادعاء : إذاً فيهوذا يقبض من اليهود الأغبياء ، والمسيح في نفس الوقت يعلن عن ملكه الذي كانوا ينتظروه ، وبهذا يكونوا قادة اليهود قد وقعوا بين مكر ودهاء يهوذا الذي قبض منهم ، وقوة وبطش المسيح الذي قبض عليهم ...
-        الادعاء : أهذا ما تقصده ؟
إن اليهود هنا خاسرون الحرب ... لكن وماذا عن العلاقة بين الاثنين يهوذا والمسيح؟
-   الدفاع : بعد أن يملك المسيح – حسب فكر يهوذا – كان طبعاً سيذهب إليه ويكشف له أسباب خيانته ويطلب منه الغفران ... ومن المؤكد أن المسيح وقتها كان سيغفر له ... وأيضاً قد يمنحه منصباً غير قليل في ملكه الأرضي الجديد على شعب اليهودية ...
-        الادعاء : عجيب أمر يهوذا موكلك ...
-        الدفاع : لماذا ؟
-   الادعاء : بالفعل درس كل أبعاد القضية ، ووضع كل المبررات التي قد تهزم أي إدانة له ، لكن المحكمة ليست محكمة أرضية لكنها محكمة إلهية ، وقاضيها الذي يرى في الظلمة كما في النور ، والذي كل شيء عريان ومكشوف لديه،  يعرف جميع تصورات الأفكار ....

إن يهوذا غبي ... لأنه حسب الأمر من منطقه هو الشخصي ، لم يفهم أن أجرة
الخطية هي (هكذا) موت ، لا تخفيض ... وأن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً
.. وهذا هو قانون الطبيعة الأول ...

ألم يخبر المسيح التلاميذ في غير مرة أنه سيسلم إلى أيدي قادة اليهود وأنه سيتألم منهم ، وأنهم سيقتلونه ... ألم يحذر المسيح بمنتهى الشدة في سمع يهوذا أن " واحداً منكم سيسلمني لكن خير لهذا الرجل لو لم يولد "

إن تجاهل تحذيرات الله ، والسير وراء المطامع الشخصية التي تعمي العيون عن البصر ، لا يمكن أن تكون مبرراً لخطأ واحد نفعله، وفي النهاية ما كان يحذرنا منه الله سوف ننال عنه عقاباً أشد ...و سيكون له دينونة أعظم .. ليس لأن الله سيزيد العقاب ، لكن لأن الفرصة للإفلات كانت متاحة ، ولكن صاحبك لم يمسك بها ...

إن التوبة لها وقت محدد ، وقت أن تسمع طرقات الله الحانية على القلب ، أو تحذيرات الله المرهبة على الفكر ... والله – إذ يطرق برفق – لا يفعل هذا من قبيل التهاون في عدله ...
وإذ يحذر بعنف – لا يفعل هذا من باب الإرهاب ... لكنه يتكلم بطريقة وباثنين ... لعله يجذب انتباهنا لما نحن مقدمين عليه من الخطر المميت ...
وإذ لم نرجع عن طرقنا الردية ، فإن غضبه تعالى معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم ...

يا حضرة الدفاع ، يؤسفني أن موكلك تاب بعد فوات الفرصة .. وهذا هو الفارق الشاسع بينه وبين الكثيرين من الحاضرين اليوم هذه المرافعة ...
فالفرصة الآن موجودة ومتاحة أمام الكثيرين، ولا حاجة لكل من يسمعني الآن في أي مكان أن ينتظر على زرع الخطية المر أن يبدأ في النمو لكي ما يفكر في التوبة ... فكما أن إمهال الله مديد ، فقضاؤه أكيد و رهيب و شديد .. وأخطر شيطان ، هو
أن تؤجل فرصة الحياة الأبدية ، لكي ما تنجز بعض الحسابات ، لأن الوقت الوحيد
الذي قرر الله أن يقبل فيه رجوع أي خائن قبل ضياع الأوان وصدور الأحكام ... هو الآن .


ثانياً : الشكل
-        الادعاء : سيادة الزميل، تقول أن موكلك تاب وندم عن فعلته ...   
-        الدفاع :  وأُصِر على ذلك ..
-        الادعاء : إذاً دعني أسألك كيف تاب ؟ أو ما هي علامة أو شكل توبته .
-        الدفاع : حسناً ، ذهب وألقى الفضة التي قبضها كثمن للخيانة في الهيكل. ألاَّ يكفي هذا !! ...  
أن يرد الشيء الذي أخذه كأجرة للخيانة ... وينفي عن نفسه تورطه في الأمر ، قبل
موت المسيح .. ويصير بهذا لا دخل له في القضية ... مات المسيح أو عاش المسيح
، هو خارج الصورة ، إنما قضى الله أمراً كان مفعولا ...
-        الادعاء :( ضاحكاً بمرارة ) ذكرتني ببيلاطس .. (        ) فمن الواضح أنه في قضيتنا كلٍ يبرر نفسه على حساب الآخر ...   
-        الدفاع : وهل تكره البراءة يا حضرة المدعي ؟
-   الادعاء : يتجه نحو منصة القضاء .. إذاً يا سيادة القاضي فيفهم من رد يهوذا الثلاثين من الفضة أن المتهم ليس بحيازته دليل الإدانة، وأن الإمساك به متلبساً أمراً بات صعباً ...
-   ( ثم يذهب لحقيبة أوراقه ) ويخرج عدد من المستندات والفواتير ويقول استسمح عدالتكم أن اطلع الدفاع علي مستندات أخرى في القضية قد تهمه ، وتجعله يغير وجهة نظره ...  
-   كل هذه المستندات يا صديقي مفادها أن يهوذا ليس لصاً فقط بسبب الثلاثين من الفضة التي ردها، لكن وقبل هذه (الثلاثين) كانت هناك أموال كثيرة مسروقة منه ، أموال صندوق الكنيسة الأولى ...
-   فهو إذاً لم يتب سوى شكلاً ... توبة ظاهرية عن مبلغ بسيط ... يمكن تعويضه فيما بعد بسرقة أكبر ... طبعاً هذا إن كان قد أمهل نفسه فرصة للحياة بعد ذلك .   
-        (بصرامة شديدة يقول الادعاء ) أين باقي هذه الأموال المسروقة ؟... أم هل تتجزأ التوبة ؟ ..
-   التوبة معنى شامل كامل ، التوبة ليست مجرد تبرئة للذمة المالية أو الأدبية في موقف واحد ... لكنها توبة شاملة كاملة عن كل المواقف ، الشبيهة ...
-   الدفاع : أنت تُصعِب الطلب ... فأين كل هذه الأموال من يد يهوذا في هذا الموقف ؟ ربما كان قد صرفها أو تاجر بها ... وكان من الصعب في هذه الأثناء أن يحصل عليها ...
-   الادعاء : أو لم يدخل يهوذا بيت مأمور الضرائب زكا، الذي كان أيضاً متورطاً مالياً في نفس خطيته ، ألم ير أن زكا كان متحمساً لزيارة واحدة من المسيح ( الذي باعه موكلك ) فقرر أن " يعطي نصف أمواله للمساكين ، وإن كان قد وشى بأحد يرد له أربعة أضعاف " ...
-        ألم تؤثر فيه نتيجة التوبة عند زكا ... وفكر أن يعمل مثله ...
-   عزيزي الدفاع ، إن الذي أهلك موكلك ليس المبلغ الأخير ، وأريد أن أؤكد لك أن القاضي لا يصادق على توبة من هذا النوع ، إنما الذي حكم عليه في واقع الأمر هو باقي المبالغ المسروقة التي لم يكن قد سلمها بعد،  أو بالأحرى ،
-   ما أسهل من التوبة عن مجرد ثلاثين قطعة من الفضة ، لكن ما أصعب التوبة الحقيقية عن " ... محبة المال التي هي أصل لكل الشرور ، والتي إن ابتغاها قوم ، ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة"
-        الدفاع : .............
-   الادعاء : إن قضية مثل توبة يهوذا كنا سنعيد النظر فيها مائة مرة ، لو حدث أنه أتي بكل مسروقاته ... لكن الواضح هنا أنه كان مصراً على أن يبقى الكل وأن يخرج فقط الجزء ... فيا للكذب ، والرياء ...
          
                                
     
ثالثاً : شهادة الشهود
الادعاء : هل هناك حرج في استدعاء الشهود ؟
الدفاع : لا ، بالطبع والشهود بالنسبة لي هم الورقة الأخيرة التي  من الممكن أن يقروا لك ببراءة موكلي ، وعودته لصوابه قبل أن يفوت الأوان ...
( يدخل إلى هيئة المحكمة ثلاث رجال ، مستوحى شكلهم من التاريخ وعليهم سمات الامتعاض من هذا الاستدعاء القانوني الذي استصدرته هيئة المحكمة الكونية العليا للنقض)
الادعاء : رؤساء الكهنة ...
ممثل عنهم : نعم يا سيدي  ... نحن هنا ...
الادعاء : إذاً فلتقفوا احتراما لهيئة المحكمة ، وتجيبوا عن هذه الأسئلة بكل أمانة ، وأحذركم رسمياً من التلاعب في الشهادة حيث أن دفاع المتهم يهوذا ، يقظ لكل خطأ لم يثبت صحته في الروايات المعتمدة ، والمحاضر الموثقة تاريخياً ، وكتابياً ....
الممثل : نحن نتعهد بهذا يا سيدي ...   

الادعاء : متى قبض منكم يهوذا مبلغ الثلاثين من الفضة ، و مقابل ماذا ..؟
ممثل عن رؤساء الكهنة : لقد حدث ذلك مباشرة قبل أن نذهب للقبض على يسوع ، يعني حوالي الساعة 11 مساءاً ... وهذا كان تنفيذا لاتفاق بيننا وبينه بدء قبل ذلك الوقت بأسبوع تقريباً ...
أما عن المقابل أن يعرفنا طريقه ، وأن يسلمه لنا " ... خلواً من الجمع " ...
يعني ، نحن لم نكن مستعدين أن نتحرك في وسط الشعب تحاشياً لحدوث اضطرابات أمنية ، ولا سيما وكانت تلك أيام عيد الفصح ، وكان يهوذا هو الذي تعهد لنا بهذه المهمة.
الادعاء : أية مهمة ؟
ممثل عنهم : أن يؤكد لنا – ونحن لم نكن نملك إلاَّ ضوء المصابيح في المساء – أن الذي سنقبض عليه هو يسوع ، وليس أي شبيه له ... أي أنه سيكون دليلاً لنا في القبض على يسوع ...
الادعاء : ثم عاد إليكم يهوذا بعد القبض على يسوع .... ؟
ممثل عنهم : ( بلا مبالاة شديدة ) يعني بعد أن أتم دوره ، وبعد أن أوفينا نحن معه بالاتفاق المبرم بيننا .. عاد فعلاً حوالي الساعة 5 صباحاً ...
الادعاء : كيف تمت مقابلته ؟
ممثل عنهم : بمزيج من الاستعجال والدهشة ..
الدفاع : ( متداخلاً ) لماذا عاد إليكم ، في هذه الساعة المتأخرة من الليل ؟
ممثل عنهم : أتي منفعلاً ، متوتراً كأنه يريد أن ينسحب من موقفه الذي كان قد انتهي فعلاً ، ومضى وقت التراجع عنه ...
أتذكر أنه أتي يقول أنه أخطأ إذ سلم لنا دماً بريئا ... وأنه يريد أن يرد لنا الفضة مع أنه كان متلهفاً وهو يعدها قطعة قطعة ، قبل ذلك ببضع ساعات ...
الادعاء : كيف قبلتم هذا العرض ؟
الممثل : بسخرية شديدة ... إذ أن يهوذا اعتبر نفسه هو صاحب الصفقة وأن من حقه أن يتراجع ...
الادعاء : إذاً من كان يهوذا بالنسبة لكم فعلاً ...
الممثل : دليل لنا .. ليس أكثر ولا أقل ...
جاسوس ، عميل مزدوج بيننا وبين يسوع ...
ورقة لعب أشتريناها مقابل 30 من الفضة لآداء دور محدد ...
ولا أخفي عليكم هذه النوعية من البشر يصعب أن تشتري ولاءها الدائم ـ إن ولائها المستمر هو للمال فقط ، وقد توقعنا أن أحداً ما من المعارضين لنا ، قد ساومه على مبلغ أكبر ، في مقابل أن يتراجع عن دوره ...
أما هو فلم يكن له أي دور يقدم أو يؤخر ...
هو كان شرارة بدء العملية التي حاولنا بإشاعتها بين أهلنا أن نقول أننا نحن لم نتحرك
للقبض على يسوع إلاَّ بعد أن طلب واحداً من تلاميذه هذا منا ...
الدفاع : فماذا فعل عندما رفضتم عرضه ؟
الممثل: قلنا له انه هو أبصر بما يريد أن يفعل بالمال ، أو بنفسه أو بكلاهما معاً ، وقد طرح الفضة بطريقة وقحة على أرض الهيكل ، ولولا انشغالنا بقضية يسوع ليلتها لكان لنا معه في هذا التصرف شأناً آخر ...
الدفاع : إذاً فقد أتي ليرد الفضة ، ولا ليساوم على مبلغ أكبر، أليس هذا صحيحاً.
الممثل : نعم ، ومن كان سيعطيه أي شاقل آخر ... ؟
الدفاع : أقصد أنه بعد ذلك لم يرجع إليكم ليكرر الأمر أو يساومكم على أية أموال .. نفض يديه من أموالكم ، ومضى ...
الممثل : نعم ، مضى ...
الدفاع : حضرة القاضي ، رفض الأموال ، وتركها ، ونفضها وألقى بها ، ومضى ولم يعد أبداً ... أية نية للتوبة كان يمتلئ بها قلبه !! ...
وهو يدير ظهره لهم ، ويصر على اعترافه بالخطأ ويرفض أجرة الظلم ...
الادعاء : من قال هذا ...
الدفاع : لقد سمعت هذا للتو من أفواه الشهود ، ولا يوجد دليل واحد أن الكلام يحمل كذباً لا منفعة من وراءه ...
الادعاء : نعم ، فعل هذا يهوذا .. ذهب للشركاء في الجريمة باعترافه بالخطأ .. وما جدوى هذا ... وما قيمة أن تسجل اعترافك عند اللصوص ، والقتلة ..
الدفاع : إن هذا دليل على أنه لا شركة لهم به ، في الجريمة ...
الادعاء : بعد أن وقعت الجريمة ... أم قبل وقوعها ...
الدفاع : .......
الادعاء : ما أسهل أن يسقط الإنسان في جريمة الزنى مثلاً ثم يعترف بأنه أخطأ مع شريكته ... فهل هذا يقلل من اقترافه الفعلي للجريمة ...
الدفاع : إذاً من كان يمكن أن يدخل الصورة بدلاً منهم ...
الادعاء :يسوع طبعاً ..
فموكلك لم يمثل شيئاً بالنسبة لهؤلاء القتلة ، ودخوله إليهم لم يكن يحمل أية نتيجة إيجابية،
لكن القضية هنا كانت معلقة بيسوع من الألف إلى الياء ...
يسوع هو الذي تم بيعه ، يسوع هو الذي صدر ضده الحكم بالموت ، ويسوع لم يضحي بيهوذا حتى اللحظة الأخيرة ...
الدفاع : كيف ؟
الادعاء : قبل أن تقع الفأس في الرأس كان لسان يسوع يحذر من وقوع الخطأ في محاولات كثيرة لاستدراكه ... أما لحظة التسليم عندما أنحني يهوذا يقبله فقد أوقف يسوع التحذير وتحول للهجة أخرى وهي العتاب بقوله " يا صاحب أبقبلة تسلم ابن الإنسان ؟ "
هل تسمعه يقول له " يا صاحب " ...
وقد كان أنسب لقب له في هذه اللحظة بالذات  "يا خائن " ...
لقد كان الرب يفتح له باب الرجوع إليه وليس لرؤساء الكهنة ...
لقد كان يريد أن تكون كلماته " يا صاحب " آخر كلمات ترن في أذن يهوذا ، وإلى الآن ، هناك خونة كثيرين في قاعة المحكمة ، لكن الرب لا يريد أن يحاولوا إصلاح خياناتهم مع الآخرين بل معه هو أولاً ....
الدفاع : لو عاد للرب هل تتوقع أنه كان سيغفر له ، وقد قال لهيرودس أن الذي أسلمني لكم له خطية أعظم " ...
الادعاء : ليست خطية بلا مغفرة إلاً التي بلا توبة ...
الدفاع : كل هذا وتعود لكلمة توبة وكأننا لم نتكلم عن أمراً واحداً من التوبة ؟
الادعاء : التوبة توجه للتواب ... وليس للخطاة المجرمين ، أمثال رؤساء الكهنة اليهود في جريمة قتل المسيح ...
الدفاع : أتقول جريمة قتل المسيح ، ألم تكن هذه الجريمة التي تتكلم عنها هي الفداء الذي به صار من حق أي إنسان التمتع بالحياة الأبدية ... إن في هذا تحامل على موكلي يهوذا بشدة ، إنك تصعد الأمور كعادتك ... 
الادعاء : قصة الفداء لمن يتمتع بها ، ويقف منها موقفاً صحيحاً تعتبر جريمة وهذا لم يحدث في قضيتنا مع موكلك ، لهذا فنفس قصة الفداء التي أعلنت عن محبة الله المتناهية هي نفسها قصة القضاء لمن لم يستفد بها ... " فكم تظنون عقاباً أِشر لمن داس ابن الله وحسب دم الذي قدس به نجساً ...
الدفاع : لا زلت ألتمس الرحمة لموكلي ....
الادعاء : على أي أساس تطلب هذا ؟
الدفاع : على أساس رحمة الله ، القاضي الأعلى لهذه المحكمة ...
الادعاء : وأين عدله ..؟
الدفاع : عدله أخذ حقه في يسوع المسيح في الصليب ، وصار لنا التمتع برحمته.
الادعاء : تتمتع برحمته وفداؤه ، هكذا ، بدون قبول لهذا العمل من موكلك شخصياً ...
الدفاع : ومن قال أن يهوذا لن يقبل هذا العرض ؟
الادعاء : انتهت مهلة قبوله لأية عروض ... يهوذا حكم على نفسه ...
الدفاع : لم يفعل يهوذا شيئاً من هذا القبيل ... كل ما في الأمر أنه أراد أن يعاقب نفسه على خطأه الرهيب ، إمعاناً في توبته ...
الادعاء : اسأله ... هو شخصياً ماذا فعل ؟

المحكمة : يستدعي الخائن ....

قرار المحكمة الابتدائية   
( يدخل يهوذا ، شخصاً زائغ النظرات ، أشعث الشعر ، كئيب لدرجة الموت ،وجهه كالقبر ، صوته أجش عندما يتكلم ، تختلط في أسلوبه السخرية بطلب الرحمة )
الحاجب : المتهم يهوذا الاسخريوطي ، أمام لجنة المحكمة
الادعاء : سؤال موجه للخائن ...  
الدفاع : حضرة القاضي، إنه فقط متهم ولم تثبت إدانته حتى الآن ، وإذا دعاه الادعاء بالخائن معنى هذا أنه حكم عليه بالخيانة مسبقاً قبل صدور حكمك النهائي فما لزوم هذه المحكمة من الأساس  ...
الادعاء:  إن الذي باع المسيح باع نفسه أولاً ... ومن هنا أدعوه خائن ...
يهوذا : ...............
الادعاء : ( بصرامة ) يهوذا ، بقى سؤال واحد قد يحل القضية ... ويبطل كل الاتهامات التي وجهناها ضدك ...
يهوذا : ( بلهفة شديدة ) وما هو هذا السؤال ؟
الادعاء : من أصدر عليك حكم الموت ... ومن نفذه ؟...
يهوذا : هذا قرار المحكمة الابتدائية ...
الادعاء : لسنا نعرف سوى محكمة واحدة وقاضي واحد وقانون واحد نحتكم إليه ، أما أمر المحكمة الابتدائية هذا فهذا حقاً أمراً غريب وجديد ...
يهوذا : محكمة كان القاضي فيها يهوذا ، المدعي كان يهوذا ، المتهم كان يهوذا والجلاد أيضاً كان يهوذا ...        
الدفاع : ( يتدخل بسرعة لشرح الموقف ) موكلي لا يقصد أنه قاضي ومدعي ومتهم طبعاً لكنه اعتبر أن ضميره هو القاضي ، وهو المدعي ، وهو الجلاد ، وفي ذات الوقت هو المتهم ..
يهوذا : ( يسرح ببصره بعيداً بعيداً ) سمعت يومها صوتاً رهيباً ، بشعاً ، مخيفاً ينادي "
محكمة " ...  أدخلت إلى محكمة رهيبة ، لم يكن هناك فيها قاضي كهذا القاضي ، لأني
كنت متهم في محكمتي بخيانة هذا القاضي ... كان القاضي في محكمتي مجني عليه ...   
رأيت القاضي يهوذا ينظر لي شرزا والشرار يتطاير من عينيه ، ويصرخ في وجهي ، " خائن ، خائن ، خائن "
واعتدلت لأري المدعي يقاطعه وهو يصرخ في هو الآخر " جبان ، نذل ، خسيس  " ...
حاولت أن أتكلم ، قاطعني صوت جمهور كان يملأ قاعة المحكمة ،
لا ، لا ، أهو جمهور المحكمة فعلاً أم أًصوات الناس الكثيرة من حولي كالموج الثائر ، " أصلبه ، أصلبه ، دمه علينا وعلى أولادنا "
شعرت أن هذه الهتافات العالية لا تنادي ضد المسيح ، لكنها تنادي ضدي أنا ...
حاولت الهروب من القفص ، لأبعد مكان وجدت الجلاد يجري خلفي ،
لا ، لا ...
الجلاد هو الذي جرى بي ، وجرني .. لمنطقة تنفيذ الحكم ، الجلاد كان داخلي .
الجلاد ينفذ عمله بسرعة وبقسوة ، لا يمهلني لحظة تفكير واحدة ...
أين الأفكار ... كلها هربت ؟
ماذا أفعل ...
لا أدري ...
الجلاد أنهي عمله ، ربط حبلاً غليظاً في شجرة ...
الجلاد يضع سيفاً تحت الحبل ...
الجلاد يسحبني ويجلسني فوق دابتي ...
لحظات سريعة ...
أنظر إلى أسفل ...
القاضي يهوذا ، والمدعي معه ...
يصرخون " أصلبه ، أصلبه "
حاولت أن أصم أذني وجدت يدي مربوطة خلف ظهري ...
الجلاد يسحب الدابة من تحتي ، الدابة تجري ...
الحبل يشد رقبتي ،
.......
تنفرج أضواء المحكمة  ...
الادعاء : ومن أعطي السلطة لهذا القاضي ... البديل ... والمدعي المزيف ؟
يهوذا : ومن الذي خلق الضمير داخل كلا منا ؟ أليس هو القاضي نفسه .. إن أي إنسان عنده ضمير ، وهذا الضمير مهمته الوحيدة أن يعاقب الإنسان بشكل تلقائي ...
الادعاء : وبأي قانون يحكم هذا الضمير ؟
يهوذا : قانون الخطأ ...
ر
الادعاء : وأين كان هذا الضمير قبل وقوع الجريمة ...
يهوذا : لم تكن هناك حاجة لدوره ... فهذا القاضي يحكم بعد وقوع الجريمة .. وليس قبلها ...
الادعاء : إذاً عندنا شخص يدعي أنه قاضي ، وأنه يحكم بقانون الخطايا وهذا القانون يعاقب المجرم أو الخائن بعد وقوع الجريمة ... وحكمه نهائي ، وليس ابتدائي ، وأين الدفاع في هذه المحكمة الغريبة ....
يهوذا : لم يكن هناك دفاع على الإطلاق ، يا سيدي ....
الادعاء : وهل بهذا يكون لهيئة هذه المحكمة أية مصداقية .. ؟
إن غياب الدفاع في محكمة يعني أن كفة من كفتي ميزان العدالة قد رجحت على الكفة الأخرى ... وبهذا فقرار محكمة كهذه باطل حتى من قبل صدروه ... إذ أن غياب الدفاع في محكمة ضميرك له معنى واحد ...
أن ضميرك موسوم ، أو هو ليس نزيهاً ... لأنه حكم ضدك ..
يهوذا : باندهاش ... غريب أنك أنت يا سيدي الذي تقول هذا ، وأنت المدعي ضدي ..
الادعاء : أنا لست ضدك ، أنا ضد أي محكمة غير عادلة ، حتى وإن كانت هي ضميرك.
الذي حدث يا سيد (يهوذا) ... أن الشيطان اشترى ضميرك بنفس المبلغ الذي قبضته يداك.
فأخرسه قبل وقوع الجريمة ...
وأيقظه بعد أن وقعت ...
وجعله يصرخ ،
فضميرك ليس ضمير صالح (        ) لكنه ضمير شرير (        ) ...
ضمير تحالف مع العدو ... ضدك ..
يهوذا : وأي ضمير صالح الذي تتكلم عنه ... لم أعرف ضميراً يستيقظ لكي يدافع عني بل دور الضمير دائماً أنه المعاقب ...
الادعاء : إن هناك قوانين أخري .. صالحة ...
فيها ادعاء مثل ذلك الشخص الذي اشتكي عليك ...
وفيها طبعاً ( بتهكم ) حضرتك كمتهم ،
وفيها قاضي عادل، ودفاع ...
وفيها جلاد ...
إنني أتكلم عن هيئة هذه المحكمة الموقرة ...

أعرفك بنفسي يا يهوذا ... أنا الضمير الصالح ...
والقاضي طبعاً تعرفه ...
والمشتكي أين هو ؟
أما الدفاع فهو مجرد نائب عن مجموعة من أشخاص يريدون نصرتك ، وتبرئتك ... لكن وبكل أسف إلى الآن فشلوا في المرافعة فشل ذريع ...

وهنا ...
يدخل قاعة المحكمة، شخص يلبس ثوباً رسمياً ...
أبيض ... عليه زي القضاء ...
يقف القاضي له من على المنصة ...
تهتز أركان المحكمة ...
يصمت الادعاء ،

الحاجب : ( يصرخ) الدفاع الإلهي  ....

يهوذا : ( يصرخ ) لا ، لا ....

الحاجب : " من سيشتكي على مختاري الله ، الله هو الذي يبرر ،
من الذي يدين ؟ المسيح هو الذي مات بل بالحري قام أيضاً الذي هو أيضاً عن يمين الله ليشفع في المؤمنين ...."

المسيح : كما هو معروف إنني لم آت أدين بل لكي أخلص ...
وعندما أتيت لم آتي لأميت بل لأهب حياة وحياة أفضل ...
ولم أتي لأبرار يستحقون هذه الحياة الأفضل بل لخطاة ومجرمين ، وخونة ...
لم أحسب شيئاً من اللوم على أي خاطئ أو خائن ، أو جبان ...
أعرف أن الإنسان قد فعلها بجهل بعدم إيمان ...
وأريد أن أتغاضي عن الأيام التي قضاها أي خاطئ في خطاياه ، بأيام حصاد مثمرة ...
لكن ...
كل من يقبل إلىَّ ويعترف بي فقط هو الذي يمكنه أن يتمتع بعمل دفاعي عنه ...
وكل من يتجاهل دوري كمدافع ويستسلم لأي جهة أخري للمحاكمة ، حتى و لضميره لا يتمتع بعملي عنه كمدافع ...
ومن هنا ...
فحتى لو شعر يهوذا أن فرصة التوبة قد انتهت ...
أو أن شكل التوبة لم يكن صحيحاً ...
أو أن الشهود لم يسعفوه في تكملة مشوار توبته ...
فإنه بقى له أن يأتي إلى هنا ...
لكن باختياره ...
قبل أن يتم استدعاؤه بالقوة ...
ليعطي حساباً قانونياً ...
إن المحكمة كانت ستنتظر له بعين الرحمة ...
هذا فقط لو كان قد أتى ...
لكنه إذ تجاهل الرحمة ...
بقى أن يتكلم العدل ...

فترة من الصمت ...
القاضي : بعد النظر في حيثيات الحكم ، والاستماع المتأني للدفاع ، و الادعاء معاً  ... وبعد سماع أقوال الشهود في تهمة الخيانة العظمي ... رقم (1) ... 
حكمت المحكمة حضورياً على يهوذا الاسخريوطي  ...
برفض الاستئناف المقدم من هيئة الدفاع البشري، وقبول ما تعلنه هيئة الدفاع الإلهي ، وحيث أن الدفاع الإلهي رفض قبول القضية  إذاً فقد جددنا الحكم على يهوذا بالطرح في الهاوية ... حتى يلقي مصيره النهائي قريباً في بحيرة النار و الكبريت ...
رفعت الجلسة ...

هناك تعليق واحد: