الأحد، 8 يناير 2012


المشهد من العمق  "لأنه ليس كما ينظر الإنسان أنظر أنا"
هل سبق لك أن تقابلت مرة مع شخص يتميز بقدرة خاصة على قراءة شخصيات الناس بسهولة من اللقاء الأول ؟!
حدث هذا معي ، عندما رشحت – على غير عادتي – شخص ليرتبط بإنسانة كنت  أعرفها جيداً ... رتبت أنا وزوجتي اللقاء الأول بينهما .. كنا نثق في أن اختيارنا وترشيحنا هو الأمثل ... ودام اللقاء عدد قليل جداً من ساعات النهار، وعادت زوجتي مع صديقتها ، وعدت أنا معه !..
وكان اللقاء الأخير ... بينهما !!
لم يقتنع صديقي بالإنسانة التي أعتبرت أنها الأنسب له من كل النواحي ، إلى هنا والأمور طبيعية فعامل الارتياح الداخلي هو الأهم .. لكن الغير طبيعي والمدهش أنه بقدرة خاصة قرأ هذه الإنسانة بالكامل ، وخرج لي بتقرير غريب ، مثير عن شخصيتها وأسباب منطقية لرفضه أن يكملا المشوار معاً ...
اعتبرته مجافياً للحقيقة ...     
انتظرت حتى يندم على رفضه الارتباط بها، لكن ما أثبته لي الزمن بعد ذلك أن كل حرف قاله عنها في ساعات لقاءهما العابر كان حقيقياً مائة بالمائة  !!
واكتشفت أنه أنا الذي لم أكن أعرفها !!
ولم أعلم هل أحسده ، أم أرثي له ... فمثل هذا النوع من الشخصيات المحللة من المؤكد أنها لا تأخذ بالظاهر، لكن لها قراءة خاصة، غير التي نقرأها نحن في صفحات جرائد الواقع الكاذبة ، فمثل هذا النوع يعتمد على مصدر آخر في قراءة الأحداث ، وتحليل الشخصيات ... كان الله بعونه !!
لم يتعرف سوى على الحقائق ، ولأن الحقائق مرة ، جامدة ... فليعنه الله على تحملها !!  
ألا تتفق معي أن نظراتنا مرات كثيرة تكون مليئة بالشغف لكنها ليست مليئة بالحكمة ، ومرات أخرى تكون مشحونة بالأمل ، لكنها لم تمس القناعة، ومع أنها  ذات مدى بعيد في بعض الأحيان ، لكنها ليست عميقة ...
وفي المقابل لنظراتنا ، فنحن فلنتكلم إذاً عن نظرة الله الذي يرى ويدبر،فعيناه لا تنام فلا يهزمها الظلام، لكن عن خاصية أخرى في عينيه وهي " التمييز  ".

1-    يرى الاتضاع قبل الحالة :
قلوب كثيرة تخبئ إتضاعاً حقيقياً تحت قناع الثقة، بينما تتستر قلوب أخرى على  سرطان الكبرياء خلف إطار الاتضاع !!

الآية السابقة كانت تتكلم عن الله الذي يرى بتمييز ... وجاءت في مناسبة إختيار داوود كملك .. اختياره دوناً عن شاول ودوناًَ أيضاً عن أخوته .. ويا للغرابة والإثارة!
فشاول بدا في أول مشاهد حياته متواضعاً إذ اختبأ بين الأمتعة (        ) ، بينما بدا داوود الصغير في أول مشاهد حياته جسوراً متكبراً يتكلم عن إنجازاته ، ونزل ليحارب الفلسطيني أمام باقي الجيش ... لست أنا وحدي الذي أخذت عنه هذا الانطباع أسألوا ألياب أخيه " أنا علمت كبرياؤك وشر
قلبك " .. فكيف قيمت عين الله هذا المشهد ؟
لقد رأت عينا الله المتضع متكبر ، ورأت المتكبر متضع ... فالعبرة ليست بالمشهد الأول، الذي كثيراً ما بنينا عليه انطباعاتنا وكثيراً ما حصل الناس فيه على درجة امتياز في نظرنا .. لكنهم كانوا أكبر خيبة نظر لنا فيما بعد. 
العبرة بالمشهد الأخير ، بالفصل الأخير ، بالطبعة الأخيرة.
فالمشهد الأول حجر خام لكن بعد بعض الصقل ، والتلميع ، والتكسير ، والتهذيب ، والتقطيع ترى الرخام الغالي .. أو قد تمسك بالذهب الثمين ...
تعال للمشهد الأخير في حياة الاثنين .. كيف جاء التقرير عن شاول على فم صموئيل " أليس إذ كنت صغيراً في عيني نفسك صرت رأس أسباط إسرائيل ، .... فلماذا لم تسمع لصوت الرب ... هوذا الاستماع أفضل من الذبيحة .... لأن التمرد كخطية العرافة والعناد كالوثن والترافيم .... " (1صم 17:15-23)
وتعال للتقرير الثاني الذي جاء على لسان ناثان النبي لداود " هكذا قال رب الجنود أنا
أخذتك من المربض من وراء الغنم لتكون رئيساً على شعبي إسرائيل " ( 2صم8:7) ... فماذا كان رد داوود على هذا الكلام " فدخل الملك داوود وجلس أمام الرب وقال. من أنا يا سيدي الرب وما هو بيتي
حتى أوصلتني إلى ههنا " (2صم18:7) !!
إن عين الله تميز شاول من قبل حتى أن يبدأ في المشهد الأول لقد أعطى عنه الله تقرير مطول ( أقرأ 1صم8 :10-18) حتى قبل أن يعرف الشعب اسمه ... ومعنى هذا أن عين الله لا تخطئ لأنها ترى النهاية من البداية ، ومن قبل البداية ..
إذ رفض الله شاول في حياتك ، لا تتضايق من فضلك ...
لا تشعر أبداً أنك خسرت هيبته ولا طول قامته ، ولا اتضاعه الظاهر ولا مسحته العابرة ( 1صم12:10) .. بل انتظر داوود ...
وإذ كنت ممن مضى أوان شاول في حياتهم، وشربوا من كأس اختياراتهم، لا تتضايق من داوود الذي يبدو صغير في عينيك ، كما كان في عيني أبوه ومن حوله (       ) لا تستبعده من احتمال تعويضك ...لا تفترض أن ترى عينا الله مثلما ترى عيناك ، بل صلي معي وقل
يا رب إني أقبل أن أكشف قلبي أمامك ...
وأعترف بعتمة تفكيري ، وقصر نظري وجهلي ...
إني أقبل نظرتك وتقييمك للأمور ، التي لم تخطئ فيها مرة واحدة ...
   

2- يرى الأشواق قبل الاستحقاق    
لا توجد قصة في العهد القديم في نظري أغرب ولا أعجب من بركة الله ليعقوب ! إنها لغز بكل المقاييس، الوراثة الطبيعية ضده فهو المتعقب الثاني وليس الأول، طبيعته الداخلية ضده، فهو المخادع المستغل للفرص، الآخرين ضده لابان وعيسو وغيرهم " وباركه الله".
في المقابل ترى عيسو الأخ الأكبر ، الممتلئ بالقوة ، الواثق من نفسه ، المحبوب من ابيه ، مرفوض أمام عينا الله ، ...
لماذا !؟ لأن يعقوب خلف كل خداع كان الله يرى فيه شخصاً باحثاً عن البركة، طلب البركة في حياته كان هو الأولوية الأولى ،مع أنه مرات طلبها بخداع ، مرات أخرى بحث عنها في ثوب الآخرين، مرات غير صوته ليأخذها ... ليس عنده مانع أن يهرب من أجلها ، وأن يسقط ، وأن يصارع ... البركة هي كل ما يطلبه قلب يعقوب!
لهذا حصل على البركة ، ودفع ضريبة الطريق الخطأ ، وعوضه الله عن سنوات ضياعه ، وباركه في آخر عمره كما لم يبارك إنسان !!
بينما كان الثاني –عيسو- " مستبيحاً " بمعنى أنه لم يوجد للبركة عنده تقدير، البركة شيء كمالي ، يباع ويشترى ، شيء يفك به رهنية مواقفه المؤقتة ...
لم يسلبه أحد البركة ، بل كانت البركة في حضنه إنما هو الذي باعها ...
لقد أحب الله يعقوب، من البداية ... لأنه رأى فيه الطبيعة التي تتسلق السور الفاصل للعودة إلى مكان البركة ، والشركة ، والعلاقة الحية ... ورفض الله عيسو
الذي قرر أن يتاجر في البركة ، فمع أنها كانت معه لكنه لم يأخذ منها شيئاً ...
اكشف قلبك الآن معي للرب :
يا رب ، كم من مرات بعت البركة الحقيقية من أجل أكلة ، من أجل علاقة عابرة..
يا رب كم من مرات كان الحكم علىَّ من ضميري هو حكمك على عيسو ألاّ ياخذ البركة مع إنه طلبها بدموع ...
يا رب إني أقف الآن في صف يعقوب ، الصغير ، المتعقب ...
إني أعترف إني لست كعيسو الكبير ، لكن أطلب البركة منك كيعقوب الصغير.


3- يرى الاستعداد قبل الانتصار             
في قصة اختيار الله للجنود المحاربين مع جدعون، لغز إلهي آخر !!
فهذا الرجل المحارب الذي سيعيد كتابة التاريخ بالنسبة لشعبه كان ينادي بتعبئة عامة للحرب !! كم جاء إليه من المحاربين !! 32 ألف .!! معقول ...
بارك الله فيما رزق !!
لكن لا، هذا الشعب كثير على الرب !!
الرب يعمل أول أختبار هيئة !!
اختبار الخوف !!
"من كان خائفاً ومرتعداً فليرجع وينصرف من جبل جلعاد "(قض3:7)
يعفى بعد هذا الاختبار 22 ألف ...
مصيبة !!
بلغ يا جدعون اعتذراك عن الحرب للأعداء !!
وتتضاعف الدهشة عندما لا يرضى الله بالعشرة آلاف المتبقيين، فيأتي لجدعون بثاني أختبار هيئة للباقيين ... وهو اختبار الاستعداد " انزل بهم إلى الماء فأنقيهم لك هناك " ... (قض4:7) !
القصة موجودة بوضوح بعد ذلك في الأعداد من 5-7 من نفس الإصحاح السابق .
كيف ترى هذه العين !!
إنها ترى الانتصار التاريخي في يد ممتلئة بالماء وقدم نصف منتصبة ، إنها ترى الانتصار في شخص ليس كل همه وخوفه على ملذاته لكنه صاحب عين مفتوحة على المصادر التي يمكن أن تتسرب بسببها هذه الملذات أيضاً ...
ألا تراقب عين الله استعدادك لسنوات الجوع وأنت في عمق الشبع ...
ألا تراقب استعدادك للحصاد وأنت في زمن الزرع ... 
أو تراقب استعدادك للدخول في جولة جديدة في الصراع ، وأنت في نشوة الانتصار؟! تراقب أمانتك في المواقف الصغيرة، قبل امانتك في القرارات الكبيرة .
بناءاً على هذا يتم الدخول في موكب نصرته ..
بناءاً على هذا يتم التعرف على الأبطال !..


4- يرى المحبة قبل العطاء
في أحد العزومات ، قدم المضيف وليمة كبيرة ... وسكبت أحدى السيدات دموعاً قليلة !! قدم المضيف مكاناً واسعاً ، وقدمت السيدة طيباً من زجاجة صغيرة ...
فكيف جاء التقرير " ثم التفت (أي المسيح ) إلى المرأة وقال لسمعان: أتنظر هذه المرأة ؟! إني دخلت بيتك وماء لأجل رجلي لم تعط أما هي فقد غسلت رجليَّ بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها. قبلة لم تقبلني وأما هي فمنذ دخلت لم تكف عن تقبيل رجلي ..... من أجل هذا غفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيراً " (لو44:7-47) !!
يا للعين الفاحصة ، نفس الموقف الذي رآه الله قديماً ، نفس الفارق لم يتغير ... بين
من قدم من أثمار الأرض ، وبين من قدم من خيار الغنم ومن سمانها ..
بين من تعبت واهتمت في ضيافته بإعداد أطعمة كثيرة ، وبين من جلست عند قدميه غير مبالية بإعداد أطباق أكثر من إعداد قلبها ... وبدلاً من أن تقدم كأختها الأطباق إختارت وأخذت النصيب الصالح ...
كيف يرى الله !!
إنه لا يرى كم قدمت ، وأي نوعية ، وبأي ثمن !!
فبنك السماء الذي نودع فيه كنوزنا لا يتعرف على دولاراتك ، ولا جنيهاتك ، إنه يتعرف على نبضات قلبك الممتلئة بالحب لمن تقدم !!
فقد تكون فلسيك ( الفلس عملة متناهية الصغر) مع نبضات قلب كثيرة أكبر في
ودائعك من دنانير كثيرة وقلب بارد !!
الله لا يسمع شفتيك التي تنطق اسمه ، بل يبحث عن صورته في قلبك الذي قد يكون مبتعد عنه بعيداً ..
إنه لا يبحث عن شباك بطرس الممتلئة بالسمك ، سواء قبل يوم الخمسين أو بعده بل يبحث عن كلمة من فيض قلبه " يا رب أنت تعلم إني أحبك " ...
عندما تأتي المحبة العميقة من القلب ، تأتي البركات الوفيرة والاستخدام الوفير... لكن إن قدم الإنسان كل ثروة بيته بدل المحبة تحتقر إحتقاراً، الأمر الذي كرره بولس في أنشودة المحبة الخالدة " إن أطعمت كل أموالي وإن أسلمت جسدي حتى
أحترق ولكن ليس لي محبة فلا أنتفع شيئاً " ( 1كو3:13) !!

5-           يرى الإيمان قبل الإعجاز :     
صرخ بارتيماوس فاقد البصر بشكل يخجل كل صاحب بصر ، فاقد للبصيرة ..
صرخ أكثر كثيراً، صرخ ليعترض الطريق، نادى المسيح بابن داوود ، فأخجل الذين مشوا في موكبه على أنه " يسوع الناصري " ... كان إيمانه طفولياً ، متطفلاً فأخجل منطق اللطفاء ، وحير ذوقيات العظماء ...
ووقف المسيح ...
وأمر أن ينادى إليه ...
فخلع صاحبنا الرداء !!
وتحرك بثقة ، غير مهتز ، غير مفاجأ بسؤال المسيح الذي لم يسمعه طيلة حياته –
كشحاذ- من إنسان " ماذا تريد أن أصنع بك ؟ " كان يتكلم بشفافية ،وكأنه يرى من لا يرى ...
تعجب يسوع ...
تعجب من إيمانه ، من إصراره ، من تضحيته برداءه الذي كان كل ما يملكه وآخر ما يعيقه ، تعجب من عدم خجله من عدم تراجعه، تعجب من صوت آخر غير الصوت المزعج الذي أعترضه من الخارج، من صوت آخر عذب تفجر من أعماقه كما يتفجر ينبوع عذب بارد وسط قيظ النهار في الصحراء .. تعجب عندما رأى إيمانه ...
بينما لم يستطع أن يصنع آية واحدة في أماكن أخرى لعدم إيمانهم ..
فعجزك ليس كبيراً على معجزة الإيمان !!
والمدة والمسافة والمكان كلها كباري صغيرة نحو المعجزة، يعبرها الإيمان ..
والله قبل أن يرى المعجزة القادمة في الطريق بيحث عن إيمانك ، عن إصرارك أن
تقف وسط المرآيين بشكل حقيقي كاشفاً ضعفك، و أن تعترض طريق المكتفين معبراً عن إحتياجك، وأن تستوقف العابرين اللاهين بشكل يعبر عن دهشتك واستفسارك ..
قدم للرب قلباً واثقاً يقدم لك الرب يداً ممدودة ، ومعجزة !!
قدم للرب تعبيراً بسيطاً عن انتظارك له، وله وحده ، يقدم لك الرب مجازاه علانية!
قدم للرب عنوانك ومحل إقامتك بالتفصيل ، يأتيك الرب في زيارة عاجلة !!
قدم للرب وجعك وتعبك دون أن تترك جزء من الرداء يستر جزءاً من رداءتك ،
بل تعال عارياً ومكشوفاً ... يسترك بظله ، وفي ستر جناحيه يحميك ...


6-           يرى التوبة الداخلية قبل التغيير من الخارج :
تحكي لنا القصة الشهيرة بـ"الأبن الضال " بعداً جديداً ...
" وإذ كان لم يزل بعيداً رآه أبوه " ... كيف كان حاله ، منكس الرأس ، مرتجف البدن، خائر الخطوات، خفيض البصر، منهك بسبب طول الرحلة، متوتر بسبب عمق التردد، ...
وهو في هذه الحالة الرهيبة رآه أبوه ...
كانت مشيته -في عين أبيه- لا تعبر عن مجرد شخص متراجع ، بل عن شخص عائد .
لم تكن نظراته تعبر عن شخص يشعر بالذل ، لكن عن شخص يشتهي أن يقف مرة جديدة ليرى نفسه في مرآة أبيه: بحلة جديدة ، بحذاء جديد ، بخاتم ..وبفرحة جديدة!
لو رأيته أنت أو أنا لقلت" عاد العاق" ، لكن هذه نظرة أبيه صرخت وقالت " عاد الضال" .. لو كنت رأيت هذا الابن في أثماله البالية لقلت " مات الذي كان حياً " ... لكن نظرة أبيه قالت عنه أنه " كان ميتاً فعاش " ...
إن تصرفاتنا ونحن في طريق العودة قد تكون ملطخة بالخسارة ، متعثرة ، غير منتظمة ، غير مستقرة ، غير مفهومة ، سيناريوهات متناقضة ، تراجع بعد تقدم ، ثم تقهقر ثم انسحاب ثم اعتراف ثم بكاء ...
لكنه وسط كل هذا يعرف أن يرى : يرى الجمال وهو يكسو كل طبقة رماد ...
يرى القوة تنبت في أرض الهزيمة، كما نبت شعر شمشون في رأس ذات عين مقلوعة !! يرى المحبة الجديدة الخالصة ، بعد زوال أسباب التبعية المغرضة كما حدث مع بطرس ...  
يرى القبس الباهت من النور الذي لا زال يشعل فتيل سراج قلب صموئيل، بعد أن
احترق باقي الفتيل كله في سراج عالي ...
   
7-           يرى التكريس قبل التقديس:
يستحضر الله لذهني أحياناً أسماء بعض الأفاضل في مجال الخدمة، وأجد نفسي قد سرحت بخاطري فيهم، ولشدة العجب أتذكر كيف أن (فلان) الذي بدأ مبكراً، والذي درس في الكلمة لساعات طويلة بشغف ، الذي كان الناس يتوقعون له مستقبل مبهر في الخدمة، كيف أن نوره بدأ يخبو بسرعة كبيرة، وفي ذات الوقت أتذكر أن واحداً آخر من الشباب يصغره بسنوات كثيرة ، لم يكن يلتفت أحد في البداية لخدمته أو لانتشاره هلنا عليه تراب الإهمال واللامبالاة ، لكن بدأ هذا الأخ في التقدم حتى انتشر على مستوى أعلى ، وأعمق من الأخ الأول ، وإلى اليوم في تقدم مستمر ...
هل يذكرك هذا الكلام بمثل آخر في الكتاب المقدس ... اثنين آخرين من الرسل ، بولس وبطرس ...  
فمع أن الترتيب معكوس لكننا إلى اليوم لا نستطيع أن نضعه في مكانه الصحيح ، أي أن نأتي ببطرس أولاً ثم بولس ... مع أن ترتيب بطرس التاريخي يسبق بولس بسنوات، مع أن إنجازات بطرس جاءت مبكرة جداً عن وجود بولس أساساً في الساحة. مع أن بطرس هو أول من فتح الباب ليدخل اليهود والأمم للملكوت ...
لكن بطرس لم يكتب في الوحي أي نسبة في مقابل ما بولس ، بطرس لم ينشر الكلمة في مساحة مثل التي تحرك فيها بولس ، بطرس رأى مجد المسيح هنا على جبل التجلي ، بينما بولس رأى المجد في السماء ، !! لماذا يتميز بولس في سباق الحياة الروحية عن بطرس ... أعود بك إلى الموقف الذي جاء في (غل2) والمواجهة بين بطرس وبولس ...
بطرس ينقاد إلى رياء لصالح اليهود ، فلا يرضي أن يأكل مع الأمم في وجود
اليهود ، يسمع بولس بالخبر يواجه بطرس علانية ، ويقاومه ... ويقومه ...
لقد وصل الحد لا إلى تفوق بولس الساحق ، لكن ويصير بولس اليهودي الأكثر تعصباً من بطرس ، هو من يقاوم التعصب في بطرس !!
     
في الحقيقة إن المشهد الذي أعتبره ويعتبره كثيرين المشهد الأكثر إثارة في العهد الجديد، هو لقاء المسيح بشاول الطرسوسي للمرة الأولى ...
لم يلتق به فاشلاً كما حدث في لقائه مع سمعان ، ولم يلتق به سائلاً كما حدث مع نقديموس، ولم يلتق به حالماً متمنياً كما حدث مع نثنائيل، ولم يلتق به عطشاناً متعطشاً كما حدث مع السامرية ... لكنه التقى به قائداً يسير برفاقه عكس الإتجاه .
من هنا تستنتج أنه لم يصادف الفشل كبطرس ، ولم يصادف الحيرة كنقيديموس، ولا اليأس كنثنائيل ، ولا الاحتياج كالسامرية .. باختصار لم تكن عنده فراغات تدعو المسيح للتدخل ...لا خلخلة في المسام يمكن للرب التسلل منها لقلب هذا العنيد شاول ... بل كان كتلة صماء متحركة، مغلقة في ذاتها ، مقتنعة بما تفعل ، مضحية لما تتمنى، قذيفة لا تعرف الانحراف عن الهدف ، لا وسيلة لايقافها أو لاختراقها !!
هذا ما نراه نحن !! لكن ما رأى الرب في هذا السهم الطائش !!
كان رأي الرب أن " هذا لي إناء مختار، ولا أجد غيره ليحمل أسمي أمام أمم وملوك وبني إسرائيل ... "
لماذا !!
نسبة تكريسه عالية جداً !! مكرس !! مكرس لقضية !! لا يعرف الحيدان عنها !!
وماذا إذا كانت القضية – يا رب- أن يضطهدك !! ويقتل أتباعك ...!؟
لا يهمني نوع القضية !! ولا شرعيتها !! يهمني كيف يتعامل بقلبه معها !! ما مقدار تكريسه لها !!
ألا ترى أن هناك الكثيرين ممن يتبنون قضايا شرعية بطريقة كأنهم يتعاملون مع قضايا غير شرعية !!
وكثيرون رفضوا أن يكرسوا أنفسهم تماماً لقضايا تستحق التكريس، وباعو أنفسهم (قطاعي) لملاهي الحياة ، واشتروا بها غرور الغني وشهوات سائر الأشياء !!
كان شاول مكرساً ، واختار الله هذا القلب المخلص ، الموحد نحو اتجاه واحد بغض النظر إن كان هذا هو الاتجاه الصحيح أم الخطأ ... أشواق مشتعلة نحو رسالة محددة ، إن أقتربت منها اشتعلت بها ..
ونعود لبطرس، فكم من المرات كان من المفروض أن يكون النصيب الأكبر لصالح بطرس ، لكن تراجع بطرس في مواقفه حتى بعد الاستخدام الإلهي له في يوم الخمسين ، وانقياده إلى رياء اليهود، وعدم صلابته مع الحق ، جعلت بولس بلا منازع يتصدر المشهد .
قضية المسيح في قلبه ، اسم المسيح في عقله ، مشاعر المسيح فوق كل احباطاته، رسالة المسيح قبل أي قرار ، مجد المسيح فوق كل اعتبار !!
أعط الرب قلباً مكرساً كبولس في أي مجال ، يجعلك الرب عملاقاً وصانع تاريخ.
لا تعط الرب يداً مرتخية ، ولا عيناً ناعسة ، ولا قدم مترددة ، ولا عقل ذو رأيين.
     

8-           يرى الأمانة قبل المهارة :
هل يمكن أن تعتبر الأمانة مكسباً ؟!
لو كانت هكذا فلماذا لا يحبها الناس الذين يحبون المكسب !؟
ولماذا طمعاً في المكسب، نترك الأمانة إن كانت الأمانة هي الطريق إلى المكسب.
ترك السيد لأحد موظفيه 5 وزنات ذهب ، فلنقل 5 مليون جنيه ، وترك للثاني مليونين ، وللثالث مليون واحد ... لماذا !؟
كل على قدر طاقتة ...
يا لحكمة السيد !!
لكن ما الذي يستفيده الموظفين أنفسهم !؟
إن استثمار الأموال سيعود بالمكسب على السيد ، فهي أمواله ، وهم عبيده الذين يعتبروا هم أنفسهم من ممتلكاته !!
فما فائدة التعب ، والاستثمار لصالح شخصاً غيري ...
لكنه وضع أمواله بين يدي !
لم أطلب منه ..
لكنه سلمني أمواله !!
على أي حال ...
تنتهي القصة بثلاث نهايات
في نفس المثل نجد النهاية الأولى :
1-    الذي أخذ ال5 ملايين ربح مثلها ، والذي أخذ الملونين ربح مثلها ... كيف تسمي هذا؟! أمانة !! أخذوا وربحوا ، وسلموا كل شيء ... لم يلتصق شيئاً بكفة يد واحد منهما ... أما الذي أخذ المليون الواحدة فتركها ، كان أهون عليه أن يسلمها كما أخذها من أن يستثمرها لصالح شخصاً آخر ..
في قصة حنانيا وسفيرة نجد النهاية الثانية :  
2-    كان كل شيء معهم ، البيت والحقل والقرار ... لم يطلب منهم أحد أن يبيعا الحقل ويضعوا الأموال عند أقدام الرسل ... لكنهما باعا الحقل وأختلسا جزء من الثمن ... هذا الذي استحقا عليه الموت ...
أما النهاية الثالثة للمثل القديم فنجدها في قصة عبيد الكرم :
3-    لقد قتلوا أبن صاحب الكرم ليستولوا هم على كل شيء: ليصيروا أصحاب بعد أن كانوا مجرد عبيد أجراء !!
من هذا نرى 3 أمور :
1-   بداية الخيانة ، ترك أمور الله بعيداً عن خدمتنا وتكريسنا... والخطوة الثانية فيها هو احتساب جزء مما نعيد لله ملك لنا ، والخطوة الأخيرة أن نأخذ كل شيء، ونقتل- أو نستبعد- صاحب الوكالة ...
2-   إكرام الله لصاحب الخمس وزنات كان أكثر من الضعف ، لقد ربح 11 وزنة وليس عشرة ... وكأن الله زاد على مكسبه بالوزنة الأخيرة التي أخذها من الشخص الغير أمين ... وهذا معناه أن طريق المكسب هو طريق الأمانة وليس شيئاً آخر  ...
3-   عقاب عدم الأمانة واحد ... الموت ...
                                                                                   مع تحياتي ... وفيق

هناك تعليقان (2):

  1. ربما ما آخذه على نفسي أن مقالاتي طويلة ... إنني أحاول أن أسجل العظات بقلم رفيع ... فلا تؤاخذوني أخوتي القراء ... لكن ربما كان في العبارات شيئاً جديداً يقول الرب به لحياتك " ليكن نور "

    ردحذف
  2. مبدع من يومك ربنا يباركك واحشني كتييييييييييييييير ناصف

    ردحذف