الثلاثاء، 7 فبراير 2012


ساقطون

                                                                                                       وفيق رمزي








لماذا نتعرض للرسوب مرات عديدة ،
في نفس الاختبار ؟
وما الذي يبرق أمام عيوننا لكي يغرينا بالتحرك بعيداً عن طرق مشيئة الله الكاملة ؟
وكيف نعود ، أو بالحري نتجاوب مع نداءات الراعي اللطيفة لكل منا، أن نعود إلى حيث المراعي الخضراء ، ومياه الراحة ...

      إن لنا عدد من القصص المعبرة والتي تعبر كلها عن اختبارات لأشخاص حقيقيين مثلنا، كانوا يوماً في عشرة حقيقية وشركة ممتعة بهذا الراعي لكنهم ضلوا وما أسهل ما يحدث هذا ، ويرد علينا مراراً ...
لهذا ، فمع أن القصص مختلفة " ملنا كل واحد إلى طريقه " ، ومع أن
الحبكات مختلفة والشخصيات متباينة ، لكن الراعي واحد ...  




                                                         السقوط

رجل محير
بطل ... بطل ... بطل ...
بكل الموازين، والمقاييس ، والألوان ...
مقدام ، ومبادر ،
صاحب مواقف عظيمة ،
وأقوال جريئة ... 
تحمله حماسته إلى حيث لا تستطيع أن تحمله قدماه ...
وتحمله قدماه إلى حيث لا تحمله أقدام أي تلميذ آخر سواه ...

لوحة حياته صاخبة في ألوانها ، واضحة جداً حتى في أدق تفاصيلها ،
فهو معطاء ، ومطيع ، ومتميز في ترتيبه بين أترابه ...
لكنه – ويا للعجب- في مرات أخري –كثيرة- نراه متراجع ... ومنسحب ...
يفكر في إعادة الحسابات ... في آخر اللحظات ...
يحلم كثيراً بالمواقف العظيمة لكن يبدو أنه لا يحسب الضرائب جيداً ، الضرائب التي من المفروض أن يدفعها في مقابل هذه المواقف ...
لهذا ، فالخط البياني لحياته متميز بمنحدرات شديدة وسريعة الميل ، فعادة يصعد الخط للقمة ثم يهوي بعدها بسرعة للقاع ، هكذا بدون أدني إنذار ...
أو بدون أن يمضي عليه في هذه الحالة أو تلك فترة طويلة من الزمن.
ويظل هكذا حال بطلنا متقلب .. متقدم .. متراجع .. منسحب .. متحمس .. مكتئب،
حتى آخر لحظة في حياته ...
ونحن لن نتأمل في كل مراحل تعامل الله مع هذا التلميذ المتميز بطرس ، لكننا
سنتعامل مع قطع عرضي في حياته يحكي لكل منا كيف الطريق إلى الانحدار،
وكيف يعرف الراعي أيضاً أن يرد نفسه ..

ليلة واحدة ...
نعم، هي ليلة واحدة ...
 لكن أحداثها المثيرة كشفت النقاب عن أسرار كثيرة في حياة وشخصية وتكوين هذه النفس رغم ما ظهر فيها ومنها من تصرفات محيرة ...

      إننا الآن نقترب من ليلة حالكة الظلام ، نفس الليلة التي أسدل فيها التاريخ الستار على أمور كثيرة ، وهي نفسها الليلة التي فتح فيها الله لنا الحجاب إلى ما وراء الأقداس فهي أيضاً الليلة التي كشف الله بلغة حقيقية جداً كل ما في عمق وحقيقة الإنسان ... بطرس أو غيره ، فالكل في هذه الليلة سيان ...
الليلة التي انتهت بالإنسان في حادث من أبشع ما يكون ...
إذ قتل -وهو نفسه تحت قصاص الموت - " ... رئيس الحياة  " ...
وشوه صورة الأبرع جمال من بني البشر ...
عرى الذي السموات ليست بطاهرة قدامه ...
صفع الذي حرره وأطلق يده ...
سب بأقذع الألفاظ من جاء يدعوه ابناً له ...
باع الذي جاء ليشتريه من نخاسة العبيد ...
استهزأ بالذي جاء ليكرمه ويرفع من مقامه و قيمته ...
علق على صليب من خشب الشجر من جاء ليرفعه إلى ذرى المجد ...
سقى خلاً الذي جاء ليرويه بدلاً من سراب العالم ، ينابيع الحياة الأبدية.
طعن الذي جاء ليشفيه من طعنات الخطية ...
جلد الذي عالجه من أسقامه الكثيرة  ...

هي الليلة التي أفرج فيها الإنسان عن المجرم باراباس ليخرج حراً طليقاً يعيث في الأرض فساداً، واختار قيصر الرومان ملكاً عليه، وغسل يديه من ذنب هو أول من اقترفه، واستهان بملك المجد في منتهى التخاذل والخسة  ...

   وسط خضم هذا الموج من السقوط البشري الهائل، على صخر المسيح ... لا يحسب السقوط بمقدار ما سقط بل بمقدار من سقط ...
فمن الممكن أن نسقط نحن بسبب ضعفاتنا ، لكن هل تتساوى ضعفات المؤمن العادي بضعفات رسول كريم أكل وشرب وسار مع المسيح ؟ ..
وهل المسببات التي يمكن أن تتسبب في هذا يمكن أن تكون نفسها هي الأسباب التي تقف وراء سقوطنا نحن البسطاء ...؟ 
إننا بالطبع لا نقصد التشهير بأخطاء رسول عظيم كبطرس ...
بقدر ما نريد أن نرى فيه مثالاً نتعلم منه في سقوطه بل بالحري في قيامه ...
وعلى أي حال فالأمر ليس متروكاً لأمانتنا ، بل لصاحب الكلمة الأخيرة
في سقوطنا وقيامنا .. فكيف سقط من علْ ؟ وكيف رد الرب نفسه ؟


 (1)
تعهد بالسقوط !!
"إن أنكرك الجميع فأنا لا أنكرك " ...

يا للعجب  !!!
حين يبدأ السقوط بتعهد ...
تعهد بعدم السقوط ..
بعدم التراجع ...
بعدم المساومة على المبادئ ...
وبدأ السقوط ليس بسبب التعهد نفسه ... بل بسبب بطل التعهد ...
" أنا" ... " ... فأنا لا أنكرك " ...
وآه ، آه عندما تأتي اللحظة التي فيها تتصدر أنا المشهد ، وتأخذ دور البطولة المطلقة ، وتطالب الله أن يكون هو المتفرج وتتوقع أنه لابد وأن يصفق آخر العرض!
حتى لو اختلفت النهاية عما كان مكتوباً لها في فكر المؤلف الأساسي للقصة ( أقصد الله ) ...
وهذا الاختلاف شوه القصة بعد قصد الله جمالها ، ولماذا هذا ؟
لأنه على المؤلف أن يعرف الصورة التي يريد أن يرسمها من كل أبعادها ، فليس كل من أمسك بقلمه وشرع في كتابة قصته يمكن أن يتنبأ بعدد من الأمور، وأولها نفسه .
ولا يمكنه أن يرصد ما يدور في دوائر السماويات من شكاية شيطان أو صلوات شفاعية - من أجله- من ابن الإنسان ... ولا هو أيضاً يستطيع أن يكتب مواقف الآخرين بنفس الطريقة التي ستحدث بها، ولا هو أيضاً يستطيع أن يتصور تأثير المواقف عملياً على نفسه ، ومدي قدرته على الرد أو الانسحاب من المشهد ، سوى
بعد أن يدخل في المشهد أساساً ...
ثم بعد ذلك يترك الواقع يقول كلمته ...
    هل كان بطرس يحسب كل هذه الحسابات، أم أنه أصر على تسلم الورق والقلم واثبات أن ما يقوله عن نفسه صحيح ولو لمرة واحدة ...؟!
ورغم أن الرب كعادته أراد بلطف أن يستدرك الأمر قبل أن يفلت من يدي بطرس أو من لسانه، وأن يحذره ... لكن من الواضح أن بطرس رفض أن يكون الرب هذه المرة بالذات هو المؤلف ...

يبدأ السقوط من حيث أكون أنا أول الحساب ...
أو حتى آخر الحساب ...
السقوط يبدأ من حيث أكون مكتوباً في الحساب بأي قيمة من الأساس ..
فرغم من أن الأمر يخصني أنا وحدي ، لكني يجب ألاَّ أكون أنا في الحساب ..
هل هذا تهرباً من المسئولية ؟ مطلقاً، على العكس تماماً، هذا هو منتهي تحمل المسئولية.
منتهي تحمل المسئولية أن يكون شخص آخر غيري هو ، وليس أنا، في الحساب.
منتهى المسئولية أن انسحب أنا في مشهد لا يمكن لي أن أقف ، وأن أترك المجال لمن يستطيع أن يتصدر ويتصدى له ...  
إن كل مشاكلنا الحقيقية تدور في فلك هذه الكلمة الصغيرة ، ذات الحروف الثلاثة في معظم اللغات ... " أنا " ...
والتي إن أشارت بحروفها لمعني ستكون اختصاراً لثلاثة كلمات ...
أ ... أحب .
ن ... نفسي .
ا ... أولاً .                  ( ثالوث آخر ، لكن في اتحاد خبيث ...)
إن ارتباط مشاكلنا بنا لن يحل منها شيئاً ، ونفس الأمر يقال بالنسبة لارتباط عهودنا بنا فهي لن تنجز لنا شيئاً أيضاً ... يعني بصراحة ، ورودنا في قائمة الحساب ، هكذا ، منفصلين عن أي ارتباط بالله ، سيخرجنا من الحسابات مديونيين ، ومفلسين ... وباحثين عن اسم آخر يدخل بديلاً عنا ، ليصل بالحسابات على الأقل لنقطة الصفر.
و هكذا تكون النتيجة : لا مكسب ، لا خسارة ...
وهذه النتيجة بالنسبة لكثيرين من الذين تاجروا " بأنا " منتهى المكسب ..

أفعل هذا بطلنا بطرس ؟
نعم، بكل أسف ...
كم من مرة أدخل بطرس "أنا" ، وكان في كل مرة يحصد منها ما لم يكن يتوقع ...
أدخلها عندما رفض على الرب فكرة الصليب،ليكتشف أن المتكلم على لسانه شيطان.
أدخلها عندما اقترح فكرة عمل ثلاث مظال واحدة للرب وواحدة لموسى وواحدة لإيليا –على جبل التجلي- وقاطعه الآب من السماء بالمظلة التي لم تضم ثلاثتهم ، بل ضمت شخصاً واحداً لم يملأ المشهد سواه ... " يسوع الابن الوحيد الحبيب " ...
وأدخلها يوم رد على الرومان بتسرعه المعهود ، موافقاً على إعطاء الجزية رغم عدم جواز هذا قانوناً من ناحية ، وعدم وجود من الإمكانيات ما يسمح بسداده من ناحية أخري ، لكن تدخل الرب بطريقة معجزية لإنقاذ الموقف ، وللحفاظ على ماء وجهه .
وأدخلها يوم أن أبي ورفض أن يغسل المسيح قدميه ، ثم اكتشف بعد هذا أن الأمر يتخطى إدراكه – كالعادة- ...
دروس كثيرة ، مختلفة ، كلها على نفس المحك ...
كلها فى نفس الدائرة ، ...
" أنا " ..
وللآن لم يتعلم الدرس ...
فأية خسارة عظيمة تلك التي تنتظره وهو يرى في نفسه ما لم يكن يحسب له أي حساب!

ما الذي تعهد به على نفسه ؟
التعهد الأول : " وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشك "...
التعهد الثاني : " ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك "
التعهد الثالث: " يَا رَبُّ إِنِّي مُسْتَعِدٌّ أَنْ أَمْضِيَ مَعَكَ حَتَّى إِلَى السِّجْنِ وَإِلَى الْمَوْتِ"
التعهد الرابع:  " إِنِّي أَضَعُ نَفْسِي عَنْكَ "...
وهذه هي التعهدات الأربعة التي نطق بها بطرس ليس أمام الرب ، أو في حضور أخوته على نفسه ، لكن ونطق بها مثل كل من كتب تعهداً على نفسه وخار ...
لكل من حاول الصمود ، وانهار ...
ولكل من رأى التيار المضاد أقوى من مجدافه، فترك نفسه للإنكار ...

التعهد الأول : " وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشك "...
أنا لا أشك ... ما أعرفه لا يقبل الشك ... أنا واثق مما في عقلي ...
التعهد الثاني : " ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك "
أنا لا أنكر حتى إلى الموت ... أنا واثق من قدرتي على الصمود أمام أي تحديات ..
التعهد الثالث: " يَا رَبُّ إِنِّي مُسْتَعِدٌّ أَنْ أَمْضِيَ مَعَكَ حَتَّى إِلَى السِّجْنِ وَإِلَى الْمَوْتِ"
أنا مستعد للسجن وللموت .. أنا عندي استعداد للتضحية ...
التعهد الرابع:  " إِنِّي أَضَعُ نَفْسِي عَنْكَ "...
أنا أضع نفسي عنك ... أنا أفديك بنفسي ...
**********
وكل مرحلة في التعهدات الأربع أبعد من المرحلة التي تسبقها ...
فيبدأ من مجرد الثقة في معلوماته الإيمانية ...
ثم في قدراته الإرادية ...
ثم في استعداداته للتضحية ...
وأخيراً في إمكانية تقديم نفسه كضحية ، من أجل إنقاذ المسيا ...
**********
ونحن نجتاز دون أن ندري في بداية مراحل السقوط عندما :
نتصور أن ما نعرفه من معلومات ، أو ما رأيناه من اختبارات ، هو وحده كفيل أن يسندنا أمام التحديات ... وأن شيئاً ما لا يمكن أن ينال من إيماننا وثقتنا في عقيدتنا فنحن راسخون للنهاية، وهنا نبدأ في فتح ثغرة الكبرياء العقلي أمام العدو( أنا أعرف).

ثم تبدأ تعهداتنا في التصاعد خطوة أخرى ، إذ أن ثقتنا في عقولنا تدفعنا للثقة في إرادتنا وأننا من الفولاذ الذي لا ينثني ، بل أسهل كسره مائة ألف مرة من محاولة ثنيه.
وهنا نفتح على نفوسنا ثغرة جديدة في الكبرياء الإرادي ...(أنا أستطيع).

فنأخذ مجال أخطر في الكبرياء إذ ندعي قدرتنا على التضحية المحدودة إلى السجن ، أو التضحية غير المحدودة "... إلى الموت .. "..  وهذه الثغرة الثالثة هي الكبرياء الذاتي ... ( أنا أكفي ) ...
وأخيراً تصل كبرياؤنا لمنتهاها في أننا نتجرأ وندعي أنه يمكننا أن نضع أنفسنا عن المسيح ... وهذا طبعاً عكس المبدأ الإلهي أن المسيح هو الذي يضع نفسه فدية لأجل كثيرين ... وهذا هو الكبرياء الروحي ... وهو أخطر أنواع الكبرياء وأشدها ضراوة ... (أنا أفدي) ...

ربما نرى لهذه التعهدات بعد آخر أكثر خطورة ...
إننا عندما نتصور أن عندنا الرصيد الكافي من المعلومات ، والإرادة ، والكفاية الذاتية ، نتصور أننا يمكننا ليس فقط أن نصمد من أجل ذواتنا ، لكن ونكون كفاة أن نسند كثيرين أيضاً ...
وكم من المرات التي رحنا " ... نضع أنفسنا "  عن آخرين في مشاكل معينة لكي نجد أنفسنا آخر الأمر متورطين في نفس المشاكل التي كنا نتصور أننا نعرف ، ونقدر بما فيه الكفاية لأن نفديهم منها ...
فإذ بنا نكتشف آخر الأمر أن جهلنا الحقيقي وليس معلوماتنا ، قادنا إلى ما لم نكن نتوقعه من المتاهات ...
وعدم قدراتنا الحقيقية وليس صلابتنا، تقودنا إلى ما لم نكن نقوى على الصمود أمامه من الإغراءات ...
ومحدوديتنا وعدم كفايتنا الحقيقية ، تقودنا إلى ما نكن نحسبه من النفقات ...
وانهارت أخيراً كل التوقعات ، وانصهرت في بعض العبرات ... والدمعات ... والآهات الحارة ، والمرة ...
**************



(2)
نوم وخفوت
" ثُمَّ جَاءَ وَوَجَدَهُمْ نِيَاماً فَقَالَ لِبُطْرُسَ: يَا سِمْعَانُ أَنْتَ نَائِمٌ! أَمَا قَدَرْتَ أَنْ تَسْهَرَ سَاعَةً وَاحِدَةً؟ "
بدأت الخطوة الثانية في مسلسل الانحدار ...
الاستسلام للنوم ...
وبطرس لم يكن غريباً أن يزوره النوم ، في مناسبة وفي غير مناسبة ..
فقد نام على جبل التجلي ، في عز النهار ...
نام في جثسيماني في عز الليل ... 
نام في السجن في عز الخوف ...
ونام على السطح في عز الجوع ...
ولست أقصد استعراض تحليلاً عن المواقف التي نام فيها بطرس ، إطلاقاً ...
بقدر ما أردت توضيح أن النوم كان رفيق دائم الزيارة لبطرس ...
فكان يهرب بالنوم ... كقارب نجاة من هجوم متوقع عليه أحياناً ...
ويستسلم له أحياناً أخرى ، كصديق غالي في أوقات الوحدة والاحتياج .
ويهرع إليه أحياناً ثالثة هروباً من المواجهات ، أو انتظاراً للمفاجآت ... أو تحسباً لقدوم بعض الأزمات .. والنوم هو المنفذ الذي يأخذنا بعيداً عنا ...
بعيداً عن واقعنا، عن حساباتنا ، عن مخاوفنا ... وعن احتياجاتنا أيضاً.
النوم هو القارب – كما قالت الأساطير اليونانية القديمة- الذي به يمكن أن نعبر حيز الواقع الضيق إلى حيز آخر متسع ملئ بالبدائل ، ومكدس بالحلول ...
فيه يصير لنا ألف عذر ، وتصير عندنا ألف وسيلة للدفاع ، والهجوم إذ أردنا ...
و منطق النائم دائماً ما يخدم مصالحه ... وإن كان النوم أحياناً ما يتحول لكابوس
ويأخذنا إلى مرحلة أحرج من الواقع الذي هربنا منه أساساً ...

من هنا .. فقد نام بطرس ...
وبمجرد ما نبدأ في الاتكال على رصيد معرفتنا ، وقدرتنا ، وكفايتنا ، يتسرب الوهن الروحي ، والفكري ، وحتى الإرادي إلى حياتنا ...
نصاب بحالة لا إرادية من الكسل والتقاعس ، واللامبالاة ...
حالة من الاسترخاء الكاذب ، والشعارات المفلسة أن الأمور على ما يرام ...
وكأننا نعرف من نحن ...
فلتأت المواجهات ...
ليأت الامتحان ،
فالمعلومات في عقلي تكفيني ،
والحيلة في رأسي تغنيني ،
والفطرة في طبعي تحميني ،
وأنا آخر الأمر
شجاع ،
مغوار ،
فليأت حتى ملاك الموت ،
فسيجد نفسه يحييني ...
وهذا ليس أكثر من حالة كاذبة نرى فيها الصورة مقلوبة ، أو معكوسة ، أو مغلوطة ... فمن نام – كما قال الشاعر إيليا أبي ماضي – تسحقه السنابك (أي حوافر الخيل) في متاهات العمر ..
ونام بطرس ...
ولم يكن هذا وقتاً للنوم ...
بل كان وقتاً لشيء آخر ...
لكن كيف يقبل النصيحة من الذي رفضها منه أولاً ... ؟

تساءلت هل من سبب مباشر لنوم بطرس ؟!
هل من سبب مباشر لنوم الكثيرين روحياً، ودخولهم في مرحلة غيبوبة لا إرادية ؟
يقول الكتاب عن التلاميذ عندما وصلوا البستان – وقد كان بطرس بالطبع واحداً منهم – أنه " كانت أعينهم ثقيلة"  لأنهم " ...  ناموا من الحزن " ...
لقد كان هناك شيئاً داكن غامق اللون خلف أعينهم ... اسمه الحزن ...
شيئاً سحب تركيزهم، وشتت عزيمتهم ، وأوقع بكل منهم على حدة في فخ النوم ...
شيئاً عندما يسيطر على نفس مهما بلغت قوتها لا يمكنها الصمود أمامه.
ولماذا الحزن ؟
هل بسبب انتقاله من المعلم إليهم كالعدوى ...
أم هل لأن الجو نفسه بما فيه من غموض ، وحيرة ، وانسحاب ، وتوقع جعلهم يفضلون تأجيل الأمور للصباح ... ويستسلمون للنوم ...
أم لأن الظلمة التي راحوا يغوصون فيها هيأت لهم جواً نفسياً كئيباً ... تركهم للنوم ..
وماذا ترى كان عليهم أن يفعلون ؟
" أن يسهروا " ...   " ولو ساعة واحدة " ... " على قدر طاقتهم " ...     
لماذا ؟
" ليصلَّوا " ...
لماذا أيضاً ...؟
" لئلا يدخلوا في تجربة "
بمعني ؟!!!
أنه يمكن للتجربة – هكذا بكل بساطة- أن تختار هذا الموعد الذي فيه يسيطر النوم على نفوسهم الحزينة ، وعقولهم المضطربة ، وقلوبهم المرتجفة ...
و دعني أسألك ، ماذا لو أتت التجربة في هذه اللحظات ؟
يا ترى كيف سيكون الحساب ؟

عزيزي
ضرب بطرس - النصف نائم النصف يقظ - ضربته الطائشة  ...
إن الضربات الطائشة هي النتيجة الأكيدة لحالة النوم ...
إن النوم يؤدي حتماً لحالة من اختلال التوازن في إدراك الأمور ...
و يتيح الفرصة أمام ردود الأفعال الغير محسوبة ...
يأتي العسكر ... يستل سمعان بطرس سيفه من غمده ... يضرب ضربة طائشة في غير مكانها ، وفي غير وقتها ... الأمور تتصاعد فجأة ضده ... يهرب الجميع من أمامه ليجد نفسه وقد وقع أشد من تلك المرة التي وقع فيها وقت أن مشى على الأمواج .
(فوقتها كان الصراع مع الموج الطبيعي ، لكن الآن الصراع مع الموج الإنساني ... ،  
والأشرار – كما هو معروف- "... كالبحر المضطرب الذي تقذف مياهه حمأة وطيناً"
ولم يكن لينقذه أحد لولا أن الذي تولى إنقاذه من الموت غرقاً في الموج الأول ، هو وحده الذي أنقذه من الموت قتلاً من الموج الثاني ...
إن النائم حتماً سيجد نفسه في حالة صدمة ، وارتباك وقلق فالمفاجآت تأتي بلا مقدمات ... لتجعله يفيق وهو في حالة بين متيقظ ونائم ...  
لقد أهمل بطرس الوصية ...
" اسهروا " ،
وتجاهل أيضاً العتاب ...
" أما قدرت أن تسهر معي ساعة واحدة " ...  ،
ودون أن يدري راح يغط في نوم عميق ...
"لأن الروح نشيط أما الجسد فضعيف" ...
فيا لله من هذه الطبيعة !!
التي يسود فيها الجسد بمطالبه على الروح بقوتها ...
والتي كل ما يستطيع الواحد فينا فعله وهو على مشارف التجربة ، هو أن ينسحب بالنوم ، كما فعل يونان ، ويترك الزمن يجعل واحداً من النوتية ييقظه صارخاً فيه " قم اصرخ إلى إلهك ".

فعندما يسيطر النوم على العيون
وعندما يدخل القلب في حالة من الخمول
وعندما يصير رصيدنا في الرد والصد،
هو الوجوم
عندها تصير ردودنا ضعيفة ،
والصوت خافت
والحسابات قاصرة
والمستقبل ليس أكثر من
مجموعة من الديون ...

(3)
... من بعيد
" ... تبعه من بعيد"

تبع بطرس المسيح تبعية مخلصة ...
ترك الشباك والسفينة، بل وترك " ... كل شيء " وتبعه ...
يجوز لأنه عرف أن العمر وقتها أثمن من أن يبدده في مجموعة زيارات للبحيرة القديمة (جنيسارت) ... أي أنه اكتشف فجأة أن للعمر قيمة تفوق مجموعة أسماك تخرق الشباك ، أو تغرق السفينة ، وصاحبها في البحيرة الغامضة، التي تأبى عليهم الخير في وقت ، وتغدقه في وقت آخر .. هكذا بلا أسباب ..
لقد ترك كل شيء وتبع المسيح .. تبعه عن حب .. عن قرب .. عن ود ..
لكن الآن ...
يا غرابة الآن !!
تنسحب القدمان إلى الخلف ، خطوات ،
والفكر إلى الخلف ، مسافات ،
تتجمد الذكريات، أيام ...
لنعرف بعد ذلك من نتبع ،
وكيف نتبع ،
ولماذا
وإذا
ولو ...          
أما الآن ، فلنكتب قصائدنا في رثاؤه ،
و ننعى حياتنا في موته ،
و نصبر على الأيام ،
لعل في صبرنا وحزننا وإيماننا ،
تكتب لنا الأحداث عنوان
على مكان آخر
غير بريد الآلام

أتذكر يوم أن قالها له " ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك فماذا يكون لنا ؟ "
وكنت تستشعر فيها كما لو كان يساوم على صفقة ... وهذه العبارة وحدها – بالرغم من أنها لا تشكك في إخلاصه – لكنها ترينا أنه يطلب شيئاٍ من تبعيته ، يطلب شيئاً لا شخصاً ... يطلب طموحاً يصله لأعلى سلم الحظ ، ليس لأسفل سلم التضحية .
لهذا تبعه من بعيد ، ...
حافظ على مسافة الأمان بينه وبين الذي تبعه ...
فإذ انقلب المشهد لصالحه ، تتقارب المسافات ، والخطوات ،
وترتفع مرة أخرى الشعارات ،
وتكتب الأناشيد الروحية ،
أما إن حدث العكس ...
فلا داعي للمزيد من التضحيات أو الأزمات ...
تكفينا الاختبارات القديمة ،
والذكريات الحلوة العتيقة ،
وليأتنا المستقبل بدونه ،
بدون المزيد من الذكريات ،
تبكينا  ...

يذكر أحد الأفاضل في كتابه – قوتي تفارقني- بعض الأسباب التي جعلت من انسحاب بطرس وتجمد موقفه إلى – تبعية من بعيد – شيئاً يسهل علينا فهمه ، وإدراكه فيقول  :
" أحياناً كثيرة نفوس تتبع الرب من أجل المنفعة ، فعندما تتعرض لصعوبة أو أزمة تقترب منه، ولكن بعد انتهاء الأزمة يتغير الحال ...
انتبه .. إن حقيقة الإنسان التي بداخله تظهر وقت تعرضه للضغوط ... وهذا ما حدث مع بطرس ، ففي الأوقات العادية قال كلاماً يعلن عن الحب ، لكن عندما تعرض للضغوط فقد ظهرت الحقيقة ...
هناك نفوس تتبع الرب بالفعل ، وعندما يقدمون شيئاً للرب فهم ينتظرون المقابل ، لكن بمجرد ما يتعرضون لأزمة يسألون الرب " هل هذه هي مكافأتك لي مقابل خدمتي لك ؟"
فهل تنتظر المقابل ؟
إن هناك تضحيات نقدمها أثناء تبعيتنا للرب لكن هذه التضحيات لم يكن أساسها يسوع وحده " ... لكن أٍساسها حب الذات والظهور ، لنوال مجد الناس الباطل .
إن المقصود أيضاً بالتبعية من بعيد هي حالة التدين الشكلي الزائف، وأخطر شيء عندما نرتدي أقنعة مزيفة ... " هذا الشعب يكرمني بشفتيه
وأما قلبه فمبتعد عني بعيداً "(مر6:7) ... " .

لكن ما معنى "... من بعيد" ؟  لقد كان إتباع الرب في هذه اللحظات هو أصدق
إتباع ، فالرب في موكب الصليب ... وقد قال يوماً في أٍسماع المريدين والتابعيين إن
أراد أحد أن يتبعني فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني ...
وهذا أهم درس في التبعية ، أن ينكر الواحد نفسه ...
لكن بطرس أنكر المعلم ...
وأن يحمل صليبه ،
لكن بطرس ترك الصليب للمعلم ...
وأن يتبعه بعد ذلك ،
لكن بطرس خرج بعيداً عن المعلم باكياً مكدوداً ...

الخطوات بالنسبة لبطرس مقلوبة ...

فأولاً أراد أن يتبع المعلم ، لكن التبعية ليست هي البداية إنها النهاية ...
وثانياً من المفروض أن يحمل الصليب، لكن بطرس ترك أمر الألم للمعلم ...
وثالثاً من المفروض أن يتبع المعلم ، لكنه هو خرج إلى خارج وبكي بكاءاً مراً .
إن إنكار النفس هو الخطوة الأولى ، وهو الخطوة التي بها تتهيأ نفسي لأن أقبل عمل
الصليب بما فيه من مذلة اختيارية ، ومشقة تطوعية ..
وهذا بدوره يؤهل نفسي – بعد اجتيازها اختبار الكسر ، والتحمل- لأن نتبع المصلوب
... لكن من الواضح أن الأمور دائماً في ترتيب البشر عكس ترتيب الله ...
وإذا أتبعت ترتيبك ، فلا يمكن أن نتوقع أن نصل إلى نفس النتائج التي يريدها الله ، إلاًّ بالعكس ... كما حدث مع بطرس ...

ثم هناك محنة أخرى في مسألة التبعية من بعيد ...
أن المسيح في هذا المشوار بالذات لم يطلب مرافقة من أحد ...
بل على العكس طلب من الجنود أن يتركوا التلاميذ لحال سبيلهم قبل أن
يسلم نفسه لأيديهم ... ولم نسمع منه لحظة أنه عاتب أحداً من التلاميذ على عدم تبعيته له في موكب الصليب كيف وهو الذي أخبرهم مسبقاً " أنهم كلهم سيشكون فيه في تلك الليلة "..؟ إذاً من طلب من بطرس أن يتبع المعلم من الأساس !؟ ...
أتبع الله في طرق الله ... لكن الطرق التي تدفعك إليها نفسك بعيداً عن مشيئته هي طرق الحيرة ، لا أنت واثق منها ولا واثق من الذي تتبعه .
وما هي إلاَّ مجرد خطوات بسيطة حتى تكتشف أن المحيطين بك يلفظونك ، ويضايقونك ، ولا تتصور أن الأمور هكذا بسببب أمانتك ، بل هي بسبب غباوتك وتهورك ....
معذرة ، لا أتهم بطرس ولا أتهمك أنت بهذا .. بل أحكم على نفسي أولاً
      هل تذكري يا نفسي ؟  
      هل تذكري يوم أن اخترت طرقاً بدت في عينيك مستقيمة ،
      واخترت مشورات بدت في عينيك منطقية ،
      ولم تأخذي رأياً من الله في شيء منها جميعاً ...
هل تذكري يوم أن خرت في طرقك الغريبة ، وبكيت ولم تجدي من يأخذ بيدك
للرجوع ...
آه يا نفسي ، تعلمي درس التبعية ... من هذا البطل الشارد ، تعلمي من أخطاء العظماء ، إذ أردت أن تكوني شيئاً ... 
فما أثقل ثمن التجارب الخاطئة ... !!!
 
     إن تبعية بطرس للرب قادته إلى خطوة جديدة ، شديدة من خطوات السقوط ...
فبداية ، كان يسير في موكب العسكر حتى وصل لبيت قيافا رئيس الكهنة ، ثم دخل
لبيت قيافا ، وهنا لم يجد له مكاناً سوى بجوار النار التي أوقدها الموجودين لأن الجو – من الواضح – كان بارداً ...
وهذا دفعه أن يجلس وسط الخدم ، والجواري .. وهنا حدث إنكاره الأول والثاني، ثم انتقل من هذا المكان للردهة الخارجية ، حيث وجد الكثير من الرجال الذين جلس في وسطهم لمدة حوالي ساعة ، وهذه هي المدة بين إنكاره الأول وإنكاره الثالث ... ولم يغادر المكان نهائياً إلى أن رن جرس الإنذار الإلهي من خلال صوت الديك وقد أدي هذا لصدمة عنيفة ، عالجتها بسرعة نظرة من المعلم الموجود في تلك اللحظة في الفناء الخارجي مهاناً بين العسكر ، ثم ترك بطرس أخيراً ذلك المكان ، بعد أن تأكد من صدق كلمات الرب الأخيرة " حيث أذهب أنا لا تقدر أن تتبعني " ....

إن الأمر أيضاً يزداد وضوحاً ، عندما نراه في المرة الأولي يكتفي بأن ينكر ، بينما يتزايد الأمر بعد ذلك إلى الحلف لتأكيد الإنكار ...
لكن يلفت نظري كمتأمل للقصة ، شيئاً عابراً في سياق الأحداث ، شيئا يمكن أن
يضع لمسة لطيفة من اللمسات التي تفتقر لها لوحة السقوط المليئة بالكدمات ...

" لغتك تظهرك " ...
لقد عرف الجمع أن بطرس كان أحد تابعي الرب بسبب لغته، أو لهجته التي راح يستخدمها للنكران ... والعارفون باللغة يقولون أن حرف السين كان ينطق بحسب لهجة الجليل كحرف الشين ...
وهذا ما وقع فيه بطرس أثناء كلامه دون أن يدري ...
لكن دائماً ، الأمر يتعدي الحروف والرموز،
للدروس ...
فاللغة هي عصارة القلب ...
من فضلة القلب يتكلم اللسان ...
والقلب مع أنه يتردى في بؤسه وقت السقوط ،
لكنه لا زال يجيد أبجدية أصيلة ، حقيقية ...
أبجدية القيام ، والتحدي ...
أبجدية لا تعرف كلمة هزيمة ...
أبجدية لها عنوان في مكان غير المكان ...
أبجدية نطق بها نفس اللسان ،
وقتها لم يكن فيها هزيمة ، وكسرة
بل عزيمة ، ونصرة ،
إنها دائماً أبجدية الإيمان ...
وعلى أي حال ، لم يمضي على ذلك زمان ...
ولكي لا يفلت خيط الحديث ، عودة للسقوط الثقيل ...
فكل خطوة للانحدار لا تنتهي عند نفس الخطوة ، فلا يوجد مكان مؤقت للانحدار ، أو محطة استراحة للسقوط ... إنما تندفع القدمان ، وقبلها القلب واللسان ، والعينان ، يندفع الكيان كله رغماً عنا في رحلة الضياع إلى الأسافل ، بحيث لا تستقر الأوضاع إلاَّ في القاع ...
وماذا عنا ؟
أين تستقر أقدامنا في هذه اللحظات ؟
وكيف طاب لنا المقام ، في صحبة الأقذار ؟
كيف جذبنا الدفيء الكاذب إلى أحضان النار ... ؟
وكيف صار الغالي رخيصاً ، هيناً بهذا المقدار ؟
يباع أولاً بفضة ، ثم بكلمة ،
ثم ننعيه بعد هذا ببكاء حار ؟
والديك يصرخ أفيقوا
ابتعدوا أيها الأبرار ،
قوموا من وسط الفجار ، انتفضوا من عشرة الأشرار
قبل فوات الفرصة
وتكرار السقطة
لئلا لا تجدوا في أفواهكم
بعد كل شيء
سوى المرار .. 



 (4)
الإنكار العظيم !!
" لست أعرفه  ... "     

ها نحن قد وصلنا إلى الدرك الأسفل من المشكلة التي بدأت تطل علينا برأسها في التعهد الذي اعتمد على (أنا) ... وها نحن قد وصلنا إلى عمق المشكلة الحقيقية في " ... لا أعرفه " ...
وكعادته يدخل بنا القمص / تادرس يعقوب ملطي، لخلع الرمز على الصور الكتابية فحين يكلمنا عن المكان الذي أنكر فيه بطرس المسيح يقول :  
" ... حين يكون بطرس في الدار أسفل يطلب الزمنيات ويستدفئ بنار محبة العالم أو شهوة الجسد، يأتي الإنكار ، وتتوالى الهزائم ...
لكنه حين يكون مرتفعًا كما على السطح يرى العلويات ويلتهب بنار الروح القدس".
لكننا نقول أن خيانة بطرس كانت تحمل المعنى الأبعد والأخطر ...
إنني لا أسمعها هذه المرة من فم بطرس ، بل من فم آدم ...  
" لست ادري و لا افهم ما تقولين " ...
" ... لست اعرف الرجل "
" ابتدأ يحلف ويلعن إني لا أعرف الرجل "
فمشهد بطرس والجارية ، ربما يذكرني بمشهد آخر حدث في أول الزمان .. في مكان آخر ، لم تكن تحيطه البرودة ، ولم يكن فيه مجال لخوف أو داعي لنكران، لم يكن فيه أي جواري أو خدام ، بل أبوانا عروسان ، الكون الفسيح عشهما ، والأشجار في حياء حراس لهما ، ومع هذا قالها آدم .. "لا أعرفه .. لا أعرف سواك يا حواء ..."
وإن كنت قد بادرت أنت بالقضمة الأولي ، لكي تعرفي الخير من الشر ،
فأنا على نفس الدرب خلفك ...
لا أعرفه من خلقني ...
لا أعرفه من أوصاني ...
لا أعرفه من يمكن أن يجرح بسببي ...
إني سرت وراءك أنت ...
وأحببتك أكثر منه ...
مهما كانت العواقب ....  
نعم قالها آدم أبونا في استهزاء بالوصية ...
وقالها ابنه بطرس خوفاً من العقاب في الأجواء الأرضية  ...
وقالها بعدهم كثيرون طمعاً في بعض الملذات الوقتية ...
أو تقرباً من بعض السلطات الأرضية ...
" ... لا أعرفه ... " .
ثم لاحظ معي أمراً آخر ، كان إنكار بطرس أولاً نفياً نظيفاً لتهمة خطيرة ...
لكن الإنكار لا يمكن أن يظل دائماً نظيفاً .. ومثالياً ...
لأنه لكي يتأكد ويزداد لونه قتامة ، لابد أن يصاحب بالمزيد .. بالحلف واللعن ..
إن الإنكار طريق قذر ، ومن يسير فيه من المستحيل أن يخرج بدون أن يتلطخ بأقذاره،ولا يشفع في مسح هذه الأقذار سوى شيئاً واحداً ، لكن مكلفاً دموعاً مُرَة ".
     لقد قال بطرس " .... لا أعرفه" ... وهنا انفصل بطرس عن أي مبادئ من الممكن أن تدينه ، أو تضغط على موقفه ... تجاه المسيح ... فقد كان كمن يفتح لنفسه باباً للهرب ، من الموقف الذي وجد نفسه متورطاً فيه ... ولا يوجد باباً للهروب من الله سوى " لا أعرف ، لست أعلم " ...
وهذه الإجابة دبلوماسية بعض الشيء ...
فهي بالنسبة للغرباء تنفي عنه صفة العلم ، وبالنسبة للرب تنفي عنه صفة العلم أيضاً ... لا أعرف من هو هذا الشخص ... ولا ما هي مبادئه ...
لست أعرف سوى شخصاً واحداً ... نفسي ..
ومن ناحية أخرى ، لست أعرف أيها الشخص الطيب من أنت ، وما هي مبادئك ، فعلى أي شيء تدينني ؟
ثم ، ...
أليس من الطريف أن نري أن "لا أعرفه" تقابل العهد الأول " لا أنكرك".
هل الفارق بينهما هنا هو ضمير الغائب الذي كان قبلاً ضمير مخاطب؟
ورغم أن هذه الفكرة بسيطة جداً ، لكنها محورية جداً ...
" ... لا أعرفه ..." وقد كانت قبلاً من نفس اللسان: "... لا أنكرك ..."   
إننا نأخذ الجراءة للاعتراف بالمسيح رباً ومخلصاً وسيداً طالما نحن في محضره .. نكلمه، نراه ... لكن في اللحظة التي تتحول فيها عيوننا عنه ويصير الحديث عنه مجرد بصيغة المفرد الغائب ،
لابد أن يكون قد صار نسياً منسياً ... فيسهل إنكار معرفته ...
لتحرص أن يكون بجانبك ... وأن تكون عينيك مثبته عليه ...
إن عجزت أن يكون كلامك عنه ، فليكن كلامك معه ...
وإن عجزت أن يكون كلامك معه ، فحاول أن تستعيد مكانك الصحيح ليعود كلامك إلى
وضعه الصحيح ..
وإن تركت الجميع ...  
وإن حسبت معرفة الكبار كمعرفة الجواري ،
وانتظرت طلوع النهار في الحواري ،
وإن بدا شكلك خافتاً، وأخذ نورك في التواري ،
فهذا أفضل من جلسة ينير فيها وجهك لهب نيران العبيد   
تتأمل المشهد القاسي ببرود ،
تشارك الجميع ،
وتضحك مع الجنود ،
وتبكي في سرك
وتمضي عندها بعيداً
تلطم الخدود
كان من الأفضل لك أن ترسم الحدود
وتتأكد أنك هناك
ليس مع العبيد
منسحباً !!
يجوز !!
في جولة الصليب
لكنك لست خائناً جباناً
حقود ...      


(5)
خروج ...
" خرج إلى خارج وبكى بكاءاً مراً " ....

      خرج البطل ...
لست أدري هل شعر بما يشعر به المصارع المهزوم، وهو يترك حلبة المصارعة .. أم جندي خائر في أرض القتال ... أم أنه خرج كمذنب سجين من قفص اتهام، إلى السجن أو إلى الإعدام ...
أو ككل هؤلاء معاً مجتمعين في شخص واحد ..
آه ، لقد خرج ...
خرج وهو لا يرى شيئاً بسبب دموعه ، ولا يسمع شيئاً بعد صياح الديك ولا يعرف شيئاً من أبجدية الحياة سوى نظرة واحدة فيها كل الكلام ، وما وراء الكلام .
خرج وهو لا ينوي على شيء سوى أن يظل هكذا في رحلة " خروج " وانسحاب وهروب ، من كل شيء ... ومن أي شيء ... من رجولته التي خذلته ، ومن تبعيته التي انتهت بإنكار مشين ، ومن أصدقاءه الذين سينظرون إليه على اعتبار أنه شخص لا أمان له ...
لقد نوى أن يعود صياد، يمسك بشباك العمر قبل أن تمسك به شباك الموت فلا يقوى على الفرار منها .. وأن يعود للبحيرة يصب فيها دموعه ، ويغرق ذكرياته ، في لياليها السوداء المظلمة و الكئيبة .. يعود للسفينة التي بدأت تنادي عليه وبدأت مشاعره تحن إليها ... لقد خرج ، ولم يفكر أبداً في العودة مرة جديدة ... فيا للصدمة ... !!!
فكل مكاسبه خسارة ، وكل أرصدته ديون ، وكل بطولاته هزائم، وكل مناخه غيوم ...
أخي ...
هل شعرت بهذه المشاعر يوماً ، وأنت في ضربة واحدة ، قاضية ، تسقط صريعاً منهاراً .. تسقط دون أن تقوم ... ؟
هل سمعت صوت الضمير يلهث من خلفك ، يناديك ألاّ تعود ...؟
ونظرات المحيطين بك تطالبك بالغياب ، تطالبك بالرحيل ...؟
وصار طعام العمر لا طعم له ...؟
لقد اجتمعت على بطرس كل هذه المشاعر في لحظة واحدة ...
وما أقسى هذه العملية الإلهية ، ما أشد هذه الغربلة ... !!!
يا ليت الأيام كلها تكفي وصف المرارة ...
ويا ليت الموت ينتظر حتى نقتل أنفسنا بأيدينا ألف مرة ، قبل أن يأتينا ليواجهنا برحمته إن الإحساس بالندم كله لا يكفي أبداً بعد زلة القدم ...
والإحساس بالحقارة لا يكفي أبداً في مواجهة النظرة الحنون ...
إن الإحساس بالذنب لا يكفي أبداً أن يقتص منا ثمن هذه الخيانة  ...
ما أقسى أن يواجه الواحد منا ذاته في لحظة انهياره ...!
إنها لحظة مريرة كما يسلط النور على الخائن في لحظة خيانته ...         




                                   يرد نفسي


  كيف رد الرب نفس بطرس . ؟
أنا ، وأنت ، وبطرس ، وغيرنا ... نعرف جيداً الطريق للسقوط، فالسقوط بكل بساطة شيئاً يجري في دمائنا ، وحياتنا كلها متجهة اتجاهاً طبيعياً إلى أسفل .. إلى التراب ، "لأننا تراب وإلى تراب نعود ... " ، وصراع حياتنا كله يكمن في من يحرز قصب السبق في معادلة الجاذبية ، السماء أم الأرض ...
من يقول الكلمة الأخيرة ... ؟
فعلى قدر انتصار السماء في ارتفاعنا عن أجواء الأرض ، على قدر ما نفهم  بأدق تعبير ماذا تعني حقاً " النسمة الحية المحيية " ، التي نفخ بها الله فينا يوماً .. وعلى قدر انتصار الأرض على السماء- في حرب الجاذبية- على قدر ما ترى بنفسك ، مقدار ضآلة وحقارة وخسة "حفنة التراب " التي نفخ فيها الله هذه النسمة العلوية ...
والغريب أن الاثنان شخص واحد ... أنت ..!
لكن بطرس مع كل هذه المعادلات المتضاربة ، والحروب المتشابكة، كان بطلاً.
بطلاً إذ أنه أتاح لنفسه أن يكون جزءاً جديداً في هذا الصراع القديم ...
كثيرون – وقت الجد- يهربون ...
لكن بطرس هرب أيضاً ...
الفارق أنهم يهربون قبل أي شيء ...
لكنه هو هرب بعد أن خسر ...
والخسارة – ذاتها- أول الخطوات في طريق المكسب ...
وهذا هو مسلسل حياته كله ... حلقات من الخسارة ، تليها حلقة واحدة من المكسب.
والحلقة الأخيرة تلخص الحلقات الأولى و تعوض عن كل ما فيها ...
أمراً آخر ...
بطرس لم يكن " متكبراً" -على الأقل في نظر نفسه- إنما كان "مقدام"...
لم يكن يعد بالوفاء ، كلون من ألوان الكبرياء ...
بل كان يعد بالوفاء ، كنغمة صدق ، صدقها في نفسه أولاً ...
وبلغ بها سيده لعله هو الآخر يصدقها مثله ...
لقد كانت نظرته لنفسه أنه ليس هكذا ، ليس جباناً ، ليس خائناً ...
والله يطالبنا أن نرى نفوسنا بشكل صحيح ... 
لكن المشكلة التي لم يكن بطرس يفهمها كانت في طرف جديد في الصراع ...
طرف خفي مع أن أعماله وحركاته واضحة جداً ، ...
مهمل في ذهن وأفكار بطرس ، لكنه نشيط جداً وفعال على مستويات أعلى من إدراك بطرس  ...  
هذا الطرف الخفي المؤثر هو الشيطان  ...
وهذا العدو وحده كفيل بأن يجعل كل وعودنا سراب ... إن لم نتمتع بحصانة رب السماوات ...
ومن جعل من يهوذا جبان ، وخائن ؟
أليس هو الشيطان ؟ إذ ألقى في قلبه أن يخون سيده ...
والشيطان أيضاً طلب أن يستلم بطرس ...
في عملية شبيهة بغربلة شديدة القسوة ...
إن صراعنا ليس مع ما نعد به ، أو حتى مع من نعد ...
لكن صراعنا هو كيف ننفذ وعودنا رغماً عن صراعنا مع الشرير ...
إن هذه قصة أخرى تفوق إدراكنا ... وقوتنا ، وعزيمتنا ، وإصرارنا ...
إن هذه قصة تستلزم أن نتمنع في الرب إلهنا ... فالحرب للرب ...
أن نلوذ به وقت غضب الشرير ...
فلنا أن نهرب إلى الرب ، ونترك المشهد له ... ونتركه هو يرد على العدو ...
هو يعرف إن كان الأمر يستدعي التدخل الشخصي أم التدخل الغير مباشر ...
وهو أيضاً يعرف كيف يتصرف بشكل شخصي ، هل يبيد العدو بنفخة فمه ، أم يقدم أوراق مرافعة و شفاعة كالمحامي العظيم، أم أنه يترك العدو يسقط في نفس ألاعيبه ... هو يعرف جيداً الطريقة والميعاد ...

إننا في هذا الجزء من الكتاب، لن نتكلم عن بطرس في نهاية القصة وقد التأمت جراحه ... بل سنراه في دور النقاهة ، أولاً ..
سنتابع القصة من منظار آخر ...
من الإجراءات التحضيرية للسقوط ، والخطوات العملية للعلاج وقت السقوط ، ومراحل النقاهة بعد ذلك ...
رأينا في الجزء الأول كيف سقط البطل ..
سنرى في هذا الجزء ، كيف يتصرف الله ...
فإلى هناك ....              






ثمان خطوات يقوم بها الرب ليقيم الساقط ...
أربع خطوات كإجراءات تحضيرية ...
وأربعة أخرى كخطوات نهائية ...
تتوسط الكل حلقة واحدة تعتبر هي خطوة الإنقاذ ...




(1)
التحذير
     قصد الرب في الليلة الأخيرة قبل تسليمه، أن يجعل مشهد الصلب واضحاً بكل دقة أمام عيون الجميع من تلاميذه ، في جلسة مطولة أفرد لها البشير يوحنا خمسة إصحاحات كاملة .. بداية من الإصحاح 13 الذي غسل فيه المعلم أرجل تلاميذه قبل العشاء الأخير، نهاية للإصحاح السابع عشر الذي فيه ختم المعلم حديثه الأخير والمطول وقد قدم صلاته الشفاعية لأجلهم ...
 
     في هذه الجلسة كانت آذان الجميع تستشعر نبضاً غريباً في كلام المعلم ، وكأن ملامحه المطمئنة دائماً بدت مغلفة ببعض الخفوت ، ونبراته المريحة بدت ممتزجة ببعض الحزن .. وإشاراته الواثقة بدا يغزوها بعض الغموض ...
واحداً منكم سيسلمني ...
واحداً منكم ...
في هذه الجلسة ...
هنا خائن ...  
سيسلمني ...
إني أضرب الراعي فتتشتت الخراف ...
كلكم ... كلكم تشكون فيَّ ... من له كيس فليأخذه و مزود كذلك و من ليس له فليبع ثوبه و يشتر سيفا ...
أسلوب جديد في الكلام  ...
الجو غير مطمئن ... القلق يسيطر على الأجواء ..
نظرات المعلم فيها شيئاً لم يروه أبداً من قبل ...
أحدهم ينصرف ، بعد أن يأذن له المعلم ...
صاروا كلهم إلاَّ واحداً ...
يا ترى هل تتباعد دوائر الشكوك مع رحيله ... يهوذا ...
أم أن الأجواء لازالت غير صافية ...
بطرس يخرج نفسه من هذا الجو الضاغط ، فيقدم تعهده الذي سبق أن تأملنا فيه : ".. إن أنكرك الجميع فأنا لا أنكرك " ...
لست مثل أي منهم ، مهما كانت المسألة ...
هنا صدمة أصعب قليلاً من الصدمات الخفيفة المتتابعة التي راح المعلم يشد بها من نفوسهم المتراخية ...
نظرة مليئة بالجدية من المعلم، لا أثر فيها لتخمين بل تكلمت النظرة بثقة لم تقلها الكلمات: "الحق أقول لك انك في هذه الليلة قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات"
وواقع الأمر كانت كل الصدمات في كفة ، وهذه وحدها في كفة أخرى.
كانت صدمة الصدمات ، أن الرب الذي يجلس معهم على طاولة واحدة ، بل وصاحب هذه العشرة النظيفة لمدة تزيد عن 3 سنوات ، يعرف أن واحداً منهم خائن والباقون جبناء في موقف تسليمه لأعدائه ، ومع هذا يجالسهم ، ويحدثهم ..
إن أخطائنا تصدمنا ، عندما نراها بعد أن تحدث ...
لكنها لا تفعل نفس الأمر مع الرب ... لأنه يعرفها من قبل ذلك بكثير ..
لم يكن بطرس يعمل حساباً أنه – في مشهد الصليب- ليس أكثر من
خائن ، بل المشهد كله امتلأ بالخونة .. وكلٍ بأسلوبه ...
     فهذا خان من أجل قطع من الفضة ، وذلك أنكر من أجل الحفاظ على سلامته ، وثالث هرب عارياً وترك ثيابه التي كانت تستره ، ورابع خان ضميره وغسل يداه زيفاً من أجل الحفاظ على منصبه ، وخامس خان نبواته التوراتية من أجل الحفاظ على مكانته ، وشعب بأكمله خان فاديه ومخلصه وشافيه في مقابل إطلاق مجرم يدعي باراباس ...
أرح نفسك يا بطرس ...
الكل في مشهد الصليب ، خونة ...
الكل في قضية موت المسيح، خطاة ...
حتى أفضل من بدا منهم وحمل الصليب خلفه ،
لم يحمله طواعية بل " سخرة " ...
إذاً المشهد مشبع بطعم النكران ...
فلماذا أنت وحدك تكسر القاعدة ...
أمام الصليب الكل منكرون ، وخطاة بنفس القدر ...
أتعرف السبب ؟!
يا للعجب !! 
السبب أن يكون الصليب هو الدليل على براءتكم جميعاً من نفس الحكم.

كان الرب يرى كل هذه التفاصيل بمنتهى الدقة ، كما نراها ونحللها اليوم بعد مرور ألفي عام على حدوثها ... رآها الرب كلها ... وأخبر بها ... قبل أن تحدث بساعات.
كان يعرفها ويرويها لهم عنهم كقصة قديمة ، ليس بحاجة إلاَّ أن يصدقوها منه، يعني لم يقلها كمن يتنبأ ، لكن كمن يروي قصة بطريقة fed back ...
فهل كان يقصد أن يقول لبطرس والباقون ألاَّ يدخلوا أنفسهم فيما ليس لهم به خبرة ،
أو قدرة ... و أنه بدلاً من الانسحاب الإجباري ، هناك وقت للتراجع الاختياري من
أمام الشر ...           
لو لم تمتثل للتحذير سوف تحصد الكثير ،والكثير ،و الكثير من الخسائر. ومرات عديدة يحذرك الرب من الدخول في بعض الأمور التي تبدو روحية الشكل لأنه يعرف أنها ليست كذلك في المضمون ... ولن تصل بك إلى أي نتيجة ترضيه أو ترضيك .
ربما مشروع معين تدخله للمشاركة في خدمة ما ، ربما شخص معين تتقرب منه بحجة أنك تريد أن تكلمه عن الرب ، ربما سفر ما تحب أن تقوم به ، والرب يضع التحذيرات ، ماذا يمكن أن أقول ، أو يقول أي منا بعد الرب لك يا بطرس ..؟!
إذ لم تصدق تحذير الرب ، فأي تحذير آخر يمكن أن تصدق ؟
إذ لم تقرر أن تتعلم أن يكون مكانك حيث مقامك ، وليس العكس ، فمن أين يمكن أن تظل في نفس المقام ؟
إن الاستماع خير من الذبيحة والإصغاء أفضل من لحم الكباش ...
على كل حال ، هي آذاننا التي تتخذ هذا الشكل المعوج من الخارج ،
أحياناً يدخلها التحذير ، على هيئة تشجيع في الاتجاه المعاكس ،  
كان الله في عوننا من آذاننا ...!!  

                                                   

                                             (2)
الوعد
" أما أنت فمتى رجعت ثبت أخوتك .."
      ...   لكن الرب الذي حذر بطرس ، الذي أراد أن يجنبه المواجهة مع الشر الغير طبيعي من الخارج ، والضعف الغير محسوب من الداخل ، كان كمن يفتح له باباً آخر قبل أن يغلق بطرس الباب بشدة في وجه نفسه  ...
لقد وعده الرب وعداً عظيماً ... " لكنك متي رجعت ثبت أخوتك " ...

رجع ...  ؟!
من أين ؟!
وهل كان قد مضي من الأساس إلى أي اتجاه ؟!
إنه – إلى الآن- لم ينته من العهد ، ولم يسقط في أي شيء شبيه بالإنكار من قرب أو من بعد ؟
لماذا يحكم الرب عليه بأنه سيمضي في طريق الإنكار، والأغرب أنه سيرجع منه أيضاً ؟
ألاَّ يَفِت هذا في عزيمة بطرس القوية ، وأمانته العفية ؟
ألاَّ يفتح هذا مجالاً لأعذار داخلية في قلبه ، وطريقاً للهروب من المسئولية ؟
ألاَّ يمكن أن يكون لهذا الوعد أي نتائج سلبية ...
فبطرس سيمضي في طريق إنكار ، مثله مثل يهوذا الذي مضي – منذ قليل- أثناء العشاء .. إن وعد الرب أولاً لم يكن الغرض منه مجرد تشجيع بطرس أو منحه قدراً من الأمل وسط الألم  ...
لقد كان وعد الرب لبطرس بداية صداً للهجوم الشرس أمام العدو ...
فالرب مذ قليل قد صرح أن هذه المرة الأمور قد تطورت تطوراً رهيباً بدخول العدو كطرف ... وأن العدو - هذه المرة – قد أتي ووضع عينيه الحاقدة ونواياه الغادرة ويده الثقيلة الباطشة على بطرس بالذات  ...
وأن الأمر أستدعي تدخل شخصي رفيع المستوى من الرب مباشرة في دائرة السماويات لوقف هذه العملية الغادرة ... التي قصدت بطرس ...
إذاً فالوعد الذي قدمه الرب هنا ، كان (كلمة شرف) منه لبطرس ، تلميذه وخادمة في سمع الشرير ... الذي كان يحوم حول فريسته وفي يده غرباله الرهيب ..
فقبل أن تفترق اليدان ، ويضرب الراعي ، وتتشتت الأغنام ...
قبل أن يدق الناقوس الرهيب دقاته الكئيبة ، لتأت ساعة الظلمة وحكم الإنسان،
قال الرب كلماته ليعلن للعدو أنه لا مكان ولا مجال ولا قوة يمكن أن تفتك ببطرس ...
ولا يدعو هذا – طبعاً – للاستسلام ، ربما على العكس يمجد شفعينا الفادي الحنان ... الذي يرثي لضعف طبيعتنا ، ويجري خلفنا في دروب تيهاننا حتى يعود بنا ...
وعندما يعود لا يعتبر ذلك مشواره هو معنا ... لكن كأنه مشوارنا نحن إليه ...
كما لو كنا نحن الذين قد قطعنا الطريق رجوعاً ... مع أنه قالها صراحة عن كل منا أننا لا نعرف الدرب ، نجيد التيهان : " ملنا كل واحد إلى طريقه " ...
فكيف إذاً يقول لبطرس " متى رجعت ( أنت ) " ... ؟
فهل كان يقول له أنه المسئول عن الضياع ، والهروب وأنه المسئول أيضاً عن الرجوع  والثبات ...؟
لكني أري في وعد الرب لبطرس محوراً آخر ...
محوراً دارت حوله حياة بطرس بعدها بشكل أساسي ...
الحماية الإلهية وقت الخوار البشري ...
وقت الضعف ، وقت المحدودية ، وقت الهشاشة ، وقت الغباء ... هناك حماية ...
هناك من يقف عند آخر نقطة صحيحة انحرفنا بعدها للضياع ، يقف كالدليل لرجوعنا مرة أخري لنفس النقطة الأولى ...
هناك من يعد أن يحول اللسان المنكر والفكر المضطرب رجوعاً إلى دروب الأمانة، والبركة والاستخدام  ...
ولا نقول هذا على سبيل حفظ ماء وجه بطرس ، بقدر ما هو تعظيم وجه الحبيب يسوع.  لا ، لا تقول لي أن مستوى انحدارك أو عدم أمانتك وصل إلى مستوى لا يمكن أن ينفع معه شفاعة السيد ... أو أن وعود الرب لبطرس ما كان يمكن أن تنفذ لمجرد أن الأحداث كانت أثقل مما كان يمكن أن يتحملها بطرس ... أو غيره ...
إن وعود الله نافذة وهذا ليس بلا مراعاة لطبيعة الإنسان، بل هي تعمل كما يعمل (حبل) مربوط بسفينة ضخمة يجر خلفه قارباً مهشماً ...
فلا تطيل النظر لحالة القارب المهشم الذي تتقاذفه الأمواج يمنة ويسرة ، لكن انظر أنه لازال يسير – رغم حالته – هازئاً بالموج المزبد ، وساخراً من الرياح القاسية ، إن مصيره مؤمَّن ومساره مؤكد والسر ببساطة في ذلك الحبل القوي الذي ربطه بالعبَّارة الضخمة ...
إن وعود الله تعمل بنفس الطريقة – بالقياس مع الفارق ... مع حياتنا الهشة الضعيفة
هل ترتبط حياتك بوعد من وعود الله ..؟
دع الرياح إذاً تثور ، والأمواج تزبد ...
دع العدو يستعرض صفوفه ، وقواته ...
دع الجسد يؤكد تخاذله ، ونكرانه ...
دع الدنيا تقلب الأعمدة ، وتزيح الثوابت جانباً ...
مهما امتلأ المشهد بالفوضى لا يمكن أبداً أن يمس صدق كلمة واحدة من كلام السيد ، فكلمته سارية المفعول ... كلمته أعلى من الزمن ، كلمته أثبت من مفاجئات الأيام.                


 (3)
ذكره
"يا سمعان أَنت نائم ؟ أما قدرت أن تسهر ساعة واحدة ؟
اسهروا و صلوا لئلا تدخلوا في تجربة أما الروح فنشيط و أما الجسد فضعيف"

عتاباً !؟
يجوز !!
تذكِرة ؟!
ربما !!
تشجيع وتحريض ؟
محتمل !!
لكني أسمع شيئاً من وراء هذه العبارة ، شيئاً كان يعتمل في نفس الرب الكئيبة ، شيئاً يحمل تركيزاَ واضحاً على هذا التلميذ الغالي بالذات ...
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي ينام فيها التلميذ الغالي أثناء صلاة الرب يسوع ،
فقد فعلها قبلاً فوق جبل التجلي (مر9) .. - ولكي لا أكون متعسفا ًفي الحكم عليه
– فعلها هو والآخرين ...
فلماذا لا نسمع عتاباً من الرب له في المرة الأولي مثلما يفعل معه الآن ؟!  
ربما لأنه في المرة الأولي كان الأمر يخص أمجاد الابن ، ومجيء إيليا وموسى يخبرنا بهذا ... وفي وقت استعراض الأمجاد تكون الصلاة فرصة للدخول إلى محضر الله، لكن هنا كانت الصلاة فرصة للهروب من ساعة الظلمة ...          
ومع أن الرب في هذه اللحظات – كإنسان – كان يحتاج جداً لمن يهتم بأمره ،
بنفسيته التي كان لأول مرة يعبر لهم عن الضغط الرهيب جداً الواقع عليها ...
لكن الغريب أنه حتى في لحظات ألمه الغير عادي ، وعرقه يتصبب من جبينه كقطرات دم يذهب لإيقاظ تلاميذه ، لعتابهم – وليس لحسابهم- بهدوء ...
فيا للعجب ..!!
أخي ، الأمور السيئة جداً والحرب العنيفة لا يمكن أن توقف إنذارات الله أن تصل بشتى الطرق إلى القلوب المثقلة بالنوم ...

بما يريد الرب أن يذكر بطرس  ؟!
بالصلاة ...
لماذا ؟
" لئلا يدخلوا في تجربة " ( مر 38:14 ) ...
ما معنى هذا ؟
ربما معناه أن التجربة واردة ... حتى مع وجود ، الصلاة وأن الصلاة نفسها ليست طريقاً للعبور بعيداً عن التجربة ، لكنها- بشكل أدق- هي أفضل الطرقً للعبور في (داخل أو خلال) التجربة ...
إنها المصباح الوحيد في اللحظات المعتمة المظلمة ...
والصلاة هنا قبل أن تكون بعض كلمات نقولها في وقت نستشعر فيه خوفا يقترب أو خطراً يداهم ، هي - بداية - صراعاً بين انسحاب الجسد ولا مبالاته ، وبين نشاط وحرارة والتزام الروح ... 
هي صراع داخلي بين بطل نصفه نائم جداً وفي سبات عميق ، ونصفه
الآخر يقظ إلى أبعد الحدود، والعبرة – أقصد النصرة- تكون دائماً في نصيب صاحب القرار فيهما ..."الجسد ضعيف أما الروح فنشيط ..."
يمكننا أن نعتبر هذا نوراً جديداً في موضوع قيامنا وانتصارنا ...
ألاَّ نعمل حساباتنا على دور أجسادنا ، وأن نعتبر في هذه اللحظات أن ثقتنا فيها وأمانها الزائف الذي تقدمه لنا، ليس أكثر من ضريبة خسارة في الحرب ...
بنا لنبدأ في الصلاة بالروح ... أو الدخول لمجال الروح الذي يعين ضعفاتنا ... والذي يرشدنا إلى ما نقول فنصيب الهدف من أقصر الطرق، يعني أن نصغي لتوجيهاته وأن نمشي خلف ما يقودنا إليه ...
إن هذا بعيد كل البعد عن مقدار استعدادنا أو استيعابنا أو حتي صمودنا.
ففي الوقت الذي يقول لك الجسد " لست مستعداً للصلاة الآن " ليس عليك إلاَّ أن تعدل أذنيك إلى الجهة المقابلة فتجد الروح القدس في روحك في منتهي اليقظة يقول لك " أنا في منتهي الاستعداد الآن بالذات لأن أقودك للصلاة " ... لذلك يريد الرب أن يذكرك أنه ليس أسهل من الصلاة الروحية وقت التجربة المضنية ...
ليس أسهل من أن تقترب إليه بثقة ، فتنال رحمة وتجد نعمة وعوناً في
حينه ... الأمر يحتاج فقط أن تلزم جسدك بالسهر لأنه هو – وليس التجربة- العدو الأول لروحك الأمر يحتاج أن تبدأ فقط بساعة واحدة ... يسهل بعدها أن تجتاز مانع الجفاف الروحي والشعور بالثقل والنعاس واليأس ، وأن تتشدد ركبتيك وأن تتثبت يداك ليس مثلما يفعل هارون ويشوع مع موسى لكن كما يمكن أن يساندك الروح القدس شخصياً ... فيا لغبطتك إن اعتبرت هذا مشجعاً يقودك للحل ، و يا لبؤسك إن اعتبرت هذا محبطاً يقودك للفشل ...
لكن في تذكرة الرب لبطرس: "اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة " أمراً آخر ...
فمع أن دخول التجربة -كما قلنا- أمراً وارداً حتى مع جو الصلاة ... لكننا وصلنا

إلى نتيجة لخصها لنا هذا القول الدقيق " أن التجارب تدفعنا إلى الصلاة أما الصلاة فتدفع التجارب بعيداً عنا "
لهذا استعين مرة أخري بقول أحدهم " إذا ارتعشت ركبتاك اركع عليهما".


                                             (4)
انتظر عليه
" ولما مضى نحو ساعة واحدة أكد آخر قائلاً بالحق إن هذا أيضاً كان معه لأنه جليلي أيضاً . فقال بطرس يا إنسان لست أعرف ما تقول ، وفي الحال بينما هو يتكلم صاح الديك " ...    ( لو53:22)

بين الإنكار الأول ، والثالث مضت قرابة الساعة ...
خلالها صاح الديك مرة ، وكانت صفارة البداية لثلاث " تثبيتات أكتاف " لصالح العدو على بطرس في حلبة الليلة السوداء التي ضرب فيها الراعي فتشتت الأغنام ...
عندي أن بطرس لم يعط انتباه لما كان يقول في تلك اللحظات ، بل كان مهتماً بملاحظة خطوات سير المحاكمة ، بلهفة وشغف لم يقاطعها إلاَّ هذه المداخلات الغبية من المحيطين به الذين كانوا يريدون أن يجروه إلى حلقة أخرى كحلقة النار
التي كان يستدفئ حولها معهم ، وأن يزيدوا بهذا تأجج الأمور ، ...
فجزء من الغربلة ربما كان يتضمن أن يتخلص العدو من المعلم والتلميذ في ضربة واحدة ...
لكن الأمور بدأت تتصاعد ،
والسنة النار بدأت تتطاير حول القريبين من دائرة الاتهام ...
وبدت النار تزيد وضوح وجه بطرس أمام الآخرين ...
وصوتها يكبر صوت كلماته ، حتى أنهم بسهولة كشفوا أمره ... " لغتك تظهرك " ...
الأمور تأخذ بعداً جديداً غير موضوعاً في الحساب ...
بطرس يدخل كطرف بـ" التلاتة " ...
ثلاثة شهود أرادوا –  بواعز من الشرير- تصعيد الموقف طلباً لمزيد من النار .
والرب في كل هذا صامت ...
إن انتظار الرب على بطرس لمدة ساعة ، وانتظاره على لوط وشمشون و غيرهم لسنوات كاملة يعلن بشكل واضح أن الرب لا يستعجل التوبة ، ولا يجبر أحداً على الاعتراف بشيء قبل الوقت ...
إن انتظار الرب يعلن أنه إله الرأفة والرحمة ، لكن المهم أن نقول أن الرب ينتظر عليهما كليهما المؤمن و الخاطي ...
فهو ينتظر على المؤمن لكي يعيد حساباته وقد نجح في هذا مع بطرس إذ يقول الكتاب  " ... فتذكر بطرس القول الذي قاله يسوع إنك قبل أن
يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات. فلما تفكر به بكي"(مر 72:14)
أي أن انتظار الرب على بطرس هذه المدة المحددة ، جعله يتذكر ثم يتفكر ...
فقد تذكر الكلام الذي قاله له الرب ...
لقد بدأت عملية استعادة الذاكرة الروحية في وقت احتشدت فيه الأحداث الصاخبة
تحاول التشويش على تركيزه وتحاول بث روح التهور والقلق في خطواته ...
ولما استعاد الذاكرة ، بدأ يرتب أوراقه المختلطة معاً ليبني مواقفه الجديدة على ما تفكر به ... وكأن الرب قصد أن يرمي مسبقاً في ذاكرته بعض الأمور التي جعلها بمثابة المرشد له في طريق الرجوع إليه يوماً ما ...
وقد كانت الكلمات التي تذكرها بطرس هي التحذير ، وليس الوعد .. وقد تحققت الكلمات، وصدقت النبوات كالعادة ...
فماذا هو فاعل الآن  ؟
لقد كان انتظار الرب عليه فرصه عظيمة لمراجعة النفس ... والله يعرف الإمهال لكنه لا يعترف بالإهمال ... والفارق شاسع ... فهو يمهل المؤمن الخائب الخائر الخاسر وقتاً معلوماً لدى الرب .. فبينما يمهل بطرس ساعة ، قد يمهلك عاماً ويقول للكرام
السماوي " أتركها هذه السنة أيضاً " ، وقد يمهل آخر يوماً ... هو – على كل حال- حر في تقدير مدة الانتظار ... لكن بعد أن ينفذ الوقت الممنوح لنا من الله لمراجعة حساباتنا ، قد يبدأ الله في اتخاذ بعض الإجراءات الضاغطة لكن الواقية لحياتنا ، والتي فيها يتعامل معنا بصرامة ، إذ قد يسمح ببعض الظروف تضيق علينا الخناق ، أو قد يسمح للشرير بعملية غربلة لنا ... أو قد ينهي حياتنا الأرضية تماماً ، أو خدماتنا .. أو يسحب شهادتنا من وسط المحيطين بنا ...
هو أيضاً حر ... !!!
لكنها ليست حرية عبثية يفعل فيها شيئاً بنوايا غير رحيمة لكنه حر في ضبط الصورة أو صياغة الإناء من جديد بأي شكل مختلف ....
لذلك يطالبنا الرسول بولس بكل جدية منادياً " ... أم تستهين بغنى لطفه ، وإمهاله وطول أناته غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة  .... لكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضباً ليوم الغضب و إستعلان دينونة الله العادلة الذي سيجازي كل واحد حسب ما يكون عمله "... ( رو 4:2-5)
إن غنى لطف الله وإمهاله وانتظاره معرض أن يفهم خطأ ... فنحن أساتذة في قلب الحروف ، وتحويل المعاني هرباً من المسئولية ...
فبدلاً من إمهال الله ، نقرأها إهمال الله ... وحاشا ألف مرة ...
لكن مع أننا نفهمه خطأ ، القضية لا زالت معلقة ليس في فهمنا نحن ، لكن في لطفه هو،وسلاح الله باللطف أقوى في مفعوله حقيقية الآف المرات من سلاح الله بالغضب.
لكنك إذ لم يجد اللطف نفعاً ... هناك شيئاً مريراً يعيد الذكريات لمكانها الصحيح ...
لذلك يقول الرب صريحاً لذلك المتناسي ملاك كنيسة أفسس " أذكر من أين سقطت وتب".
ليكن وقت إمهالي لك فرصة لتتذكر فيها التحذيرات ، فرصة لتعيد فيها الحسابات ،
فرصة لتعود أدراجك وتكتب اعتذارا بدلاً من الإنكار والسقطات  ...
وإلاَّ ...
و إلاَّ فهناك " استعلان دينونة الله العادلة " ، و إلاَّ " ... فإني آتيك عن قريب وأزحزح منارتك من مكانها إن لم تتب " ...
فلماذا نحسب آناة الله ولطفه حساباً غير الحساب ، قبل أن يأتي الحساب ,...
هذا وقت الانتظار ، وقت الرحمة واللطف والإمهال ...
بعد هذا لا أحد يضمن شيئاً ... لا أحد ...
                                             

                                             (5)
نظر إليه
" فالتفت الرب ونظر إلى بطرس " ...  ( لو 62:22)
لقد انتظر الرب ، لكنه أنهى انتظاره ، بنظرة ...
ويا للنظرة  !!!
كانت نظرات الرب أقوى من كلمات كل البشر في تعليقهم على هذا المشهد ...
كانت تلك النظرة المترفقة بالخروف الذي يعرض نفسه للخيانة ، وللانسحاب من حيز  الكرامة لكي لا يهلك ...
ترى ماذا كان مذاق النظرة في نفس بطرس ؟
وكيف ينظر إلينا الله أحياناً من وسط الظروف ، ونحن لا نميز نظراته ، من وسط نظرات الآخرين !!
ترى ماذا قالت نظرة المسيح ؟!

 نظرة مذكرة ..
 "فالتفت الرب ونظر إلى بطرس فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلاَمَ الرَّبِّ كَيْفَ قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ».  ( لو 62:22)
 إن نظرة المسيح لبطرس كان هدفها أساساً أن يذكره بأن هناك خيانة ستحدث من جانبه ، وأن هذه التذكرة كانت تهدف إلى أن ينسحب بطرس من المشهد وأن يكتفي بما حدث معه، وألاَّ ينكر على نفسه بعد ذلك الضعف الطبيعي الذي يقوده لطلب حماية الرب ...  كيف يمكن للنظرة الإلهية أن تذكرنا بالأمر ؟
إن النظرة التي نظرها المسيح لبطرس أتت بعد الكلمة ...
فمن لا يتذكر بالكلام ، يتذكر بالنظر  ...
ومن لا يتذكر بالنظر يتذكر بطريقة أخري ...
وطرق الله كثيرة في أن يستحضر لذاكرتنا الروحية ما أستودعه فيها من وصايا ، وتعاليم ، لكن أن يذكرنا الله بنظرة فهذا شيء آخر ..

نظرة محذرة
ما الذي ذكرت به هذه النظرة بطرس ؟
بالتحذير، الذي لم يكن بطرس قد نسيه بعد، إذ أنه قيل في سمعه من الرب من أقل من ساعة ... إن الرب حذره من طبيعته ، ومن الأحداث الصعبة التي ورط نفسه فيها هو الآن ، ومن شكاية العدو ، ومن تهوره  
والأهم من هذا كله ... من كبرياؤه ..
لقد كانت نظرة الرب لبطرس نظرة محذرة ...
وهو الآن إما أن يكمل جرعة الخطر حتى الموت الذي صار وعيداً مخيفاً ، لا وعداً لطيفاً ... وإما أن ينسحب أمام بطل الجلجثة يجتاز المعصرة " وحده" ، ومن الشعوب لا يكون معه أحد .. ومن الخاصة لا أحد أيضاً ...
الموقف جد أخطر من أن يكمل فيه بطرس أي دور حتى ولو كـ " كمبارس "...
الموقف لا يتحمل سوى بطل واحد ... هو وحده يستطيع أن يكمل دوره البطولي ، في بطولة مطلقة لآخر لحظة ...
وانسحاب أي بطل وهمي آخر ليس عبثاً، وليس تراجعاً ، لكنه تعجيل بسير الأحداث
الحقيقية وعدم مقاطعتها ، التي ليس لبطرس أو لغيره فيها أي مكان أمام كاميرات التاريخ ... فإلى خارج هذا الكدر يا بطرس ... 
ويا كل بطل تصور أنه يستطيع أن يكتب بوجوده أي إضافة للمشهد الإلهي غير الإنكار .     
نظرة واعدة ...
كانت نظرة الرب لبطرس شمولية في تأثيرها ، فالتحذير الذي تذكره بطرس جر على ذاكرته وعد الرب .. أنك متى عدت ثبت أخوتك ..
عدت ...
من أين ؟
من خارج الكدر ...
من هامش الأحداث ...
خروجك ليس الصورة الأخيرة في ألبوم الذكريات ...
خروجك لن يعيق عودتك ، أخرج الآن لأنك ستعود بعد بعض الوقت ...
أخرج لتعيد حساباتك ، ولتكتب بدموعك وثيقة أعظم توبة في التاريخ ، توبة تلميذ وصديق خان سيده ، وتابع تنكر لمعلمه ...
لكن التوبة في دموعك ليس هي علامة الرحيل ، وليس إشارة الوداع ..
بل هي على العكس ، أعمق معاني اللقاء والالتقاء ... بين عين بطرس الباكية وعين المعلم الحنونة الواعدة ، بين قلب بطرس النازف النادم، وقلب السيد الغافر ، بين صمت بطرس المتألم وبين انتظار الفادي المتأمل ...

 (6)
إرسال
مات المسيح ...
وكانت أخبار الصلب ، والموت ، والدفن ، والقبر ... عدة خناجر طالت بطرس من جهات متعددة ...
طعنات طالت ذاكرته ، كما توقعاته ...
ورجولته كما علاقاته ..
إلا أن أصعب طعنة حقاً ، أن الزمن لم يمهله لحظات يحاول بها أن يستعيد وقفته في حلبة الصراع ، والعدو استطاع أن يحرز آخر " تثبيت أكتاف " عليه ، قبل أن يحاول أن ينفض العدو الذي جثم عليه بكل ما امتلك من قوة ، و ....
صفر الحكم صفارته الثالثة ...
وصفق جمهور الخصم ...
وجروا بطرس خارج الحلبة ...
لماذا لا يعود الزمن قليلاً ..؟
لكنت قد قلت اعترافي الأخير به ، لكنت أرسلته إليه وسط هتاف الجماهير ، لكنت قد حملت خلفه الصليب في صمت كالقيرواني ... لكنت قد قبلته قبلة الوداع ... لكنت قد رافقته من بعد الموت حتى اطمأنت عليه نفسي في آخر مثوى له ...
ودارت الهواجس بفكر بطرس ، ...
و أي منا لو وقف مكان بطرس لكان قد تمنى ، وندم ، وتحسر...
لكن إلى أي عنوان الآن يمكن أن يرسل له برقية اعتذار مطولة ، يكتبها بدموعه ،
ويعمل فيها بمنطق الذي شعر بالخيانة فبدأ يحاول أن يلفق الأعذار أمام الطرف
الآخر ..
ثم ـ لقد كان العنوان صعباً ، لمكانه من ناحية ، ولحالته من ناحية ، و لمن حوله من ناحية ...
فمكانه كان قبراً في بستان ...
قبراً ليس وسط المقابر ، ليس وسط الأموات ،
مكاناً مميزاً ، جديداً ، مُعلَّماً ... لا يحتمل أي تجاهل أو نكران ...
لكن هذا البستان اليوم لم يعد بستان ، لأنه بات ميداناً عسكرياً محاصر من الرومان.
وآه لو كان يعرف بطرس أن هذا المكان سيكون المثوى الأخير لسيده قبل ذلك الوقت بساعات ، لما كان قد تردد لحظة في أن يرسل برقية قبل وصول الجثمان ، مرفقة بدموعه ... معطرة بندمه ، لكن الآن لم يعد ينفع البريد ، أمام الحديد ..
الحديد كان موضوعاً بعد الصليب في ختم قيصر روما ... في حجر عظيم على القبر ..
وحتى لو لم يكن هناك حراس روما ، أو ختم روما ... ماذا ينفع البريد مع ميت شهيد.
إذاً فلينتظر أن يزوره طيفه كما يزور الأحباء محبيهم في الأحلام ...
هل فعلاً من الممكن أن يزورني مرة واحدة ، غير غاضباً مني ...
هل هناك أي فرصة للاعتذار عما بدر مني أمام الخوف ..؟

وفر على نفسك يا بطرس التفكير ، في البريد
لأنك تجهل العنوان ...
ولأنك لست غنياً كفاية لدفع تكاليف الرسالة والساعي
ولأنه ليس عندك رسالة يمكن فيها أن تضيف شيئاً أو تسحب شيئاً أو تفعل أي شيء
غير النزيف ..
ثم من قال لك أن
البرقية تكتب هكذا ،
من أسفل إلى فوق ...
أو تكتب هكذا بحبر الرياء والملق ؟
البرقية ليست في يدك ولا في استطاعتك
البرقية هناك الآن تكتب أمام القبر ،
في داخل البستان المخيف ،
معلمك يسند يده على حجر القبر المدحرج ليكتب لك أنه يريدك
ليس في حلم ، تتركه فيه وتستيقظ
لكن في عنوان آخر  ...
في الجليل ..

الساعي وصل الآن ...
المجدلية تطرق الباب لاهثة ...
تقول لهم أنها رأت السيد وقد أرسلها برسالة أسرع من رسائلهم ...
" أذهبي وقولي لتلاميذي ولبطرس أن يسبقوني إلى الجليل "  ؟!
هل قال لك بطرس ؟
هل نطق اسمي مع التلاميذ ،
هل لازال اسمي في ذاكرته، ولم يكتب في التراب .. !؟!
ولماذا يريد أن يراني ؟
هل من جديد  ؟!
 (7)
عتاب
يقول المفسرون عن الإصحاح الأخير من إنجيل يوحنا أنه الإصحاح الذي ما كان يجب أن يكتب ... والذي جعلهم يقولون هذا حالة التلاميذ المؤسفة ، وهم يعودون أدراجهم للبحيرة ، يقلبون عيشهم، يكتبون صفحة جديدة بعد الصفحة التي طووها ، ومعهم الريس بطرس ..
المشهد مخز ، لأنهم يعودون مرة جديدة لعمل شيء أتفه مما يمكن أن تتوقع. وكأن  صيد السمك جذبهم لمغامرة جديدة في المياه القديمة ... ناداهم لتجربة عادية في سفينة أحلامهم الشائبة، وكأنهم أرادوا أن يثبتوا لبعضهم أن نسيان المعلم قد حدث بسرعة ، وأن العوام لابد أن يعودوا مرة أخري يطلبوا منهم السمك ... وبهذا تعود المياه لمجاريها .. هكذا ما أسهل على رجال مثلهم نسيان المعلم ، وما أسهل عليهم استعادة ثقة البسطاء من ناحيتهم من ناحية أخري ..
وليلة أخري ، جددت الذكريات القديمة بكل تفاصيلها ، ووضوحها ...
ليلة أخيرة ، قالت أن البحيرة لازالت كما كانت في آخر مرة معهم (لو 5) بخيلة ،
لازالت تحتاج أمر المعلم ، وثقة الصياد ، وهبوط الشباك لتعط ما فيها من الخير ..
المشهد كامل العدد ، لكن ينقصه المعلم ...
البحيرة أبية ، ممتنعة ، صامته ، متمردة ...
الشباك تتحمل غلب التلاميذ المحبطين في جذب وشد وإلقاء ولم ....
التلاميذ يعرفون أن أجزاء الصورة غير مكتملة في جزء كبير في الوسط ...
لكن من الواضح أنه لا تعليق ...
تمضي الليلة ، صوت الموج يغسل الذكريات في أذهان التلاميذ، يغسل الحزن
والدموع. تنقشع ظلمة الليلة بعد وقت طويل ، لتكشف في غبش الفجر عن شخص يقف هناك على الشاطئ ، ينادي بمرح ، بصوت دافئ بشوش يتناسب مع حالة صمتهم كما يتناسب المسكن القوي مع حالة أحد المصابين ...
" يا غلمان ألعل عندكم إداماً ؟"
غلمان ؟!
أصغرنا أكبر منه !!
وهل هذا وقت لأحد يداعبنا ...
إن هذا الأسلوب - من زبون أول النهار- جديد ...
لكن واضح أنه ينتظر رداً ، فليرد أحدنا الرد الذي أجلناه طوال الليل ...
" فقالوا لا "
إنه لا يمضي ويتركهم لخيبة أمل ،
أو يضحك ساخراً من كثرة الفشل ،
أو يتنمى لهم زيادة الهمة في العمل  ،
لكنه يعطيهم الرد مغلفاً في أمر ،
" ألقوا الشبكة على جانب السفينة الأيمن فتجدوا "
من أين له أن يرى السمك في ضوء الفجر ..
ثم من أين له أن يحدد الجهات الأصلية في المياه ،
فهل في الموج يميناً أو يساراً يفصله عرض القارب الصغير ...
أهذه سخرية من نوع جديد .؟
أم هي الصورة القديمة تعود من جديد ؟
لم يكن أحداً غيره خبير بالاتجاهات ، والتوجهات ..
لم يكن أحد يضارعه في توجيه الدفة في وسط الموجات العاصفات ...
فهل يكون هذا هو ؟
" فقال يوحنا لبطرس هو الرب "

خرجوا من البحيرة ، وخرج بطرس بطريقته ..
يقول عنه يوحنا -الذي كان رفيقه طوال المدة التي تعثر فيها وقت عودته لوضعه الأصلي يوم الخمسين- أنه " القى نفسه في البحر " ...
ربما اشتياقاً ..
ربما ارتباكاً لأنه كان عريان ..
ربما إعلاناً عن عدم قدرته على تحمل المزيد من فشله ، إلا بأن يلقي به نفسه في البحر ..
وربما تنبؤاً منه عن حالته التي كان سيصل بها إلى الأبدية قبل أن ترسي سفينة حياته على شاطئ الأبدية طبيعياً هناك ...
وربما لأجل كل هذه الأسباب مجتمعة معاً ...
لكن المفاجأة ، ليست أنه ألقي بنفسه في البحر ، لكن المشهد الذي خرج من البحر ليجده أمامه ...
فنحن لا نجيد صنع المفاجآت ، بالتأكيد ليس مثل السيد ...
والمفاجأة أنه " ... لما خرجوا إلى الأرض نظروا جمرا موضوعا و سمكا موضوعا عليه و خبزا " ...  عتاب ثقيل ...
علام التعب ، والسهر والمجهود لأجل عمل يمكن لي أن أمتعكم به جاهزاً في شركة حقيقية ؟!...
إذاً قد تعمدتم الرجوع للبحيرة من دوني ، فأخبروني إذاً لمن منكم أعطت سرها ؟
يبدو أنه هكذا ينسى بسرعة غلمان الجليل الصياد الأعظم الذي اصطادهم قديماً قبل
أسماكهم ، وجعلهم يتركوا أي صيد في شباكهم ذات مرة ليجروا ورائه ..
لكن أي لوم عندما يضيع الحب ... ؟!
وأي ديون يمكن أن يطالبون بسدادها في عودة واحدة مثل هذه ...

لهذا يأتي العتاب ، بعد الغذاء الساخن ...
" يا سمعان بن يونا أتحبني ؟ "
لقد سأله قبلاً " أتعرفني ؟ " وقتها أجاب بطرس إجابته التاريخية التي سجلتها السماء ، وباركتها الأرض ...
اليوم يسأله سؤالاً أعمق وأخطر كأني أسمعه يستأنف سؤاله الأول بسرعة ويقول له " أتحبني بعد أن عرفتني ؟ "

ومن يعرفك ، ولا يعشقك يا رب ؟
ومن يعرفك ويعايشك ، ولا يسبي في حبك ؟
ومن رآك يوماً ولم يترك جرته ، وطيبه ، وأمواله الكثيرة ، وديناه كلها ، ويسير ورائك ، راضياً ممتناً لجميلك ومعروفك ، إذ قد فتحت عيناه ، وأذناه ، وقلبه للسماء ...
أرحت ضميره تجاه أبديته ، وماضيه ،
من يمكن أن يعرفك دون أن يقولها " أحب سيدي لا أخرج حراً"
إن قيود محبتك لهي أقوي من الموت ...
وأطول من الأبدية ...
أعمق من قاع المحيطات ...
وأسمى وأرفع من السماوات ...

إجابة سمعان كانت لا تحمل هذا العشق الذي كتبه قلمي في لحظات صفاء، لكنها كانت إجابة مخضبة بحمرة الخجل في وجهه ، و بارتعاش الحزن في صوته، وبرنين الخوف في ملامحه ... محاولتان إضافيتان من الرب ، للحصول على أصفي موجة على جهاز إرسال سمعان ، أتت بنتيجة أكثر تعثراً :
" فحزن بطرس لأنه قال له ثالثة أتحبني فقال له يا رب أنت تعلم كل شيء أنت تعرف أني أحبك قال له يسوع أرع غنمي " ..
ولم يغضب الرب من هذا الحزن إذ أن "... الحزن الذي بحسب مشيئة الله ينشئ توبة لخلاص بلا ندامة. وأما حزن العالم فينشئ موتا." 2كو10:7
إنني حزين معك يا بطرس هذا الحزن المقدس الذي يمكنه أن ينشئ في أعماقي توبة حقيقية ، إنني حزين ليس أني اكتشفت خطاياي ومرارتها ، بقدر ما أني حزين أني استمرأت طريق الابتعاد عن تذوق محبته وحلاوتها ، إنني حزين على عودتي مرة جديدة للماضي الأسيف ، أرتشف من مياهه حنظلاً وأفسنتينا ، ..

والآن ، هل صدقك ؟
هل قالها له لسانك لأول مرة ، بعد الخيانة ..
وهل تعتقد أن الكلمة الغالية لها عنده نفس المذاق الذي كان لها،لو كنت لم تفعلها خيانتك ؟





 (8)
تكليف
"أرع غنمي " ...

إن كلمة أحبك التي اخترقت حنجرة بطرس خروجاً للهواء الطلق ، انطلقت كطائر حبيس ترك لتوه القفص وهو مجروح ...
لم يذكر الكتاب أنه بكى هذه المرة مثلما بكى ليلة خيانته ، لأنه لم يكن يحتاج إلى دموع أخري تحمل نفس مرارة الدموع الأولي ...
فدائماً كلمات النكران تخرج بمرارة ممزوجة بالدموع ، لكن كلمات المحبة تخرج شافية عافية لكل جريح موجوع ...
لقد بدأ الرب يضع في رصيد بطرس جرعة مكثفة من الحب والالتزام ، لقد محا دينه ، والآن يرد له وضعه بين أخوته ، وأمام نفسه ، والأهم من الكل أمام سيده ..
وحول الصورة من متراجع إلى متقدم ،
من ناكر إلى شاهد ، من صامت محرج إلى متكلم بأروع الكلمات وأطربها في سمع نفسه وسيده وأخوته ..
لماذا ؟
لم يكن الرب يريد مجرد أن يحفظ ماء وجه التلميذ ...
لكنه كان يريد أولاً أن يثبت أن الحب يمكن استرداده ، وأنه يمكن إصلاح أعطاله ، وأنه يمكن إعادة شحن رصيده من البنك الإلهي الأعظم المتفجر بينبوع الدم على هضبة الجلجثة ...
لقد قال الرب كلمات لبطرس مفادها أنه كلما زاد إحساسك بأنك فقدت محبتك ، قلها
قلها وأنا أعلم بكل شيء ... أنا أعرف التفاصيل ...
قل الكلمة الغالية رغماً عن الكلمات الرخيصة المهينة التي قلتها ...
وكرر هذه الكلمة حتى يصير لسانك بها نظيفاً ... حتى تجف بها دموعك الساخنة ، و حتى تبرد لوعتك المريرة ...
و أنا أقبل أن أسمعها ، لأني أحب هذه الكلمة ، وأصدقها ...
والأكثر من هذا لابد أن تقول لي " أحبك " لأني سأكلفك تكليف الحب ...
وسأضع عليك مسئولية لا يقدر علي نفقاتها سوى امتياز الحب ...
إني أكلفك بأن ترعي غنمي ...
مع أنه كان يجب أن أحاسبك على ما فعلته بأخوتك ...
عثرتهم عندما أنكرتني ،
و أعثرتهم عندما أتيت بهم إلى هنا ...
إلى بحيرة الماضي المعتمة ، وجعلتهم يرجعون مرة أخرى لشباك الذكريات الممزقة ..
لكني رغماً عن كل هذا ، مرة جديدة ... أأتمنك عليهم ...
أأتمنك على أخوتك الذين هم غنمي ، وخرافي، قبل أن يكونوا رعيتك أنت ..
هل يمكن للبطل المتراجع أن يتقدم الصفوف من جديد ...
أو للراعي المتعثر أن يتمتع بأغاني القطيع من جديد ...
هل يمكن للقائد السائر في طريق خطأ ، أن يعدل المسار لكل من خلفه من جديد ..
نعم ،  ...
لكن بعد تعهد الحب الصادق ، وليس تعهد القوة الكاذب ...
بعد حزن التوبة ، وليس نشوة الانتصارات ،
بعد أن يقبل أن يكون ناظراً على " رعية الله " وليس على رعيته أو رعية كنيسته ،
وبعد أن يقبل أن يخدم بنشاط وليس لربح قبيح ...


كلمة أخيرة
أيها السادة ...
كانت هذه قصتي أنا ... داخل عباءة بطرس الرسول ...
بقلم معاصر ، كان معي في أحداث مشابهة لما حدث مع الأبطال الحقيقيين...
يصيبني الفخر وأنا أقف إلى جوار القصة ، أمزج خيالي برجالها ، وأستأذن تفاصيلها بأن أكتب ما رأيته فيها يحدث معي ... ولهذا فإنني واثق أن هذه السطور البسيطة 
قد تحمل تحذيراً عليك مراجعة نفسك فيه .
أو قد تحمل تشجيعاً عليك ربط نفسك به ..
وقد تحمل تحفيزاً عليك دفع نفسك له ...
أخيراً ...
يباركك الرب فقد قضيت هذه الدقائق لقراءة هذه العجالة ،
أتمني أن تكون قد أضافت شيئاً جديداً ...
وللرب المجد كله ...
وفيق رمزي    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق