الاثنين، 20 فبراير 2012

المرآة ... أنت بين 3 مرايا !!


3 مرايا



يحدق الناس اليوم بصورة ملحوظة أمام مرآة كبيرة كل منهم يرى ما يريد أن يراه فيها، ويبعد وجهه عن رؤية ما لا يريد،
لكن العجيب أنهم كلهم ينظرون في نفس المرآة ...
أما مما تصنع هذه المرآة ؟!..
فالشاشة الصغيرة جزء منها ، القرنية والشبكية في العين وما يقع عليهما من مشاهد جزء آخر من هذه المرآة، الصحيفة اليومية، المواقع الالكترونية، فاترينة محلات الأزياء قبل دخول الكريسماس، وفاترينة البقالة قبل رمضان ، أجزاء تتجمع معاً بصورة ما لتشكل معاً هذه المرآة ...
المنبر في الكنيسة، المنصة في مجلس الشعب، الكاميرا أو الميكروفون في الاستوديو ... المسرح والملهى والمقهى ، نافذة القطار... كلها ، كلها أجزاء صغيرة نطل منها على مرآة كبيرة أسمها :
مرآة الواقع ...
ومع أن كل ما ذكرناه باختلاف أشكاله ومعانيه هو وسائل تشكل ما يسميه الآخرين (الرأي العام)، لكن هذا الرأي العام يقع تحت وصف قديم ذكره بولس الرسول عندما وقف مثلنا أمام نفس المرآة وقال " إننا ننظر الآن في مرآة في لغز" ..
ومع أن المرايا في عصر بولس لم تكن كمرايانا من الزجاج ، فالزجاج عرف بعد رحيل بولس ، لكن كانت المرايا وقتها تصنع من الفضة المصقولة أو النحاس المطروق ... ولم تكن تصور الملامح بدقة كما تصورها أقل كاميراتنا جودة اليوم ... لكن مع هذا ، فكلام بولس ليس عن النحاس ولا عن الزجاج إنما عن شيء آخر ، أقدم وأشمل ، وأعمق ... لقد كان يتكلم عن الواقع الذي نتطلع إليه جميعنا ...
وقال بولس في شرح هذه المرآة الواقعية أنها :
·      جزئية ليست كلية  : " الآن نحن نعلم بعض العلم "
·      مؤقتة و احتمالية وليست مؤكدة  " الآن نحن نتنبأ بعض التنبؤ " ... 
·      ظاهرية وليست حقيقية  " لما كنت طفلا كطفل كنت أتكلم وكطفل كنت أفطن وكطفل كنت أفتكر " ...
-        ملحوظة هامة : مع أن ما قاله بولس الرسول كان على المواهب الروحية من النبوات والعلم الخ ، لكنني أري أن هذه الأوصاف -من ناحية أخرى- تنطبق أيضاً على مرآة الواقع ..

1- المرآة " الجزئية " :
لقد قال إننا ننظر في مرآة واقعية جزئية ، وهذا أول ما يجعلنا "في لغز" .
إننا لا نملك صورة واحدة كاملة من كل جوانبها... لا نملك فكرة واحدة أو تحليل واحد نهائي لأي شيء يخص ما يحدث في الواقع ... نحن غرقى في التفاصيل التي تقودنا للمزيد من التفاصيل، ولا نصل في النهاية لأي نتيجة نهائية شاملة ... فما يقوله المنبر في الكنيسة عن الواقع في ذاته مفهوم ، لكنه جزء من كل، وهذا الجزء إذا وضعته جانب ما يقوله التليفزيون ستجد جزء آخر، مفهوم أيضاً ، لكنه لا يتناسب مع الجزء الأول ... بل أن ما يقوله التليفزيون نفسه في أحد برامجه عن أمر ما مهاجماً ، تجد –ربما في نفس البرنامج – أنه يقول جزء آخر– عن نفس الموضوع – مشجعاً ومدافعاً ... ويسقط المشاهد في حيرة ،أي جزء من كل هذه الأشياء يمكن أن يستحوذ على ولائه  ..
ما أن تركب الأخبار بجوار بعضها في محاولة للوصول لمعنى متكامل حتى ويخرج علينا خبر صغير –ربما إشاعة - تهدم كل شيء ، وتجعلنا من جديد نبدأ في إعادة المحاولة ... التي لن تقودنا في النهاية إلا إلى مجموعة من الألغاز
الجديدة ...  إننا في لغز " صنع في الواقع " ..
دستور الأحداث غير مفهوم ،
ساعة القدر في يد عابث نسى أن يضبطها،
قافية الأخبار حرة بلا ميزان،
النوتة الموسيقية في يد ثائر يعزف شيئا غريباً لا يمكن أن نفهمه ...
حتى المسيح السماوي في مرآة الواقع مجرد " نجار ناصري " ، نبي ، مصلوب ، مفعول به في جملة كان الفاعل فيها " حكامنا ورؤساء الكهنة " ، هكذا قال من وقف أمام مرآة الواقع ليصف حادث الصليب ... وهو يسرد لنا مشاهداته ...

أحياناً يدخل قدر من النور ، في لحظات خاطفة غير متوقعة ، فنرى أو نفهم شيئاً، ونشعر أننا قد بدأنا نقترب من " نهار الحقيقة " الذي فيه " سنعرف كما عرفنا " ، وننشد كما لم ننشد من قبل ، لكن يختفي نور النجم ويتركنا لهيرودس نسأله " أين يولد ملك اليهود !؟ " .. فنحن في توقيت صحيح لكن المكان كبير والخريطة في أيدكم وأنتم – أيها اليهود- لا تنظرون للسماء ...

أي نعم أننا أحيانا نتذوق قطرات من الحقيقة ، لكنها مخففة جداً وذائبة في وعاء اللغز الكبير،
الواقع مرير ،
الكابوس ثقيل ،
الصليب والمزود للأمير،
والقصر والعسكر للحقير  ..!
2- المرآة الاحتمالية (مؤقتة) :
إن بولس الرسول يضيف شيئاً جديداً لهذا اللغز الصعب أنه متغير ، وأنه غير ثابت ... فيا ليت الأجزاء تظل موجودة كما هي، رضينا بالهم .. !!
إنما –بسبب طبيعة الحياة الغير مستقرة– الأجزاء دائماً ما تتغير، وتتخذ أشكالاً جديدة ... ومن يتصور أن هناك شيئاً يمكن أن يظل على حاله كأنه يبحث عن كنز دفنه في الأرض تحت سحابة لها شكل مميز في السماء ... مستحيل ، فالسحاب يغير مكانه ، ويرحل ... وبالتالي أي كنز سيختفي ... يقول بولس في مكان آخر أن الذي يرى –في هذا اللغز – "وقتي " أي متغير ، ومرتبط بالوقت الذي يمضي ويطير ويرحل لأن الذي يرى وقتي أما الذي لا يرى فأبدي ...
العريس المثالي اليوم، قد يكشف الزمن جزء من لغزه في الغد أنه لم يكن مناسباً بالمرة، الملك الذي يجلس خلف الأمتعة بمنتهى الاتضاع قد يأتي غدا و يستحوذ على كل الأمتعة ... حتى محنة اليوم قد نكتشف في الغد أنها صارت هي نفسها خبر القيامة .. أسأل تلميذي عمواس الذين قالوا للمسيح السائر بجوارهم " اليوم له – أي للمسيح المصلوب – ثلاث أيام منذ حدث ذلك – أي منذ حادث الصليب "، وكانت خيبة أملهم الواقعية جداً تسيطر عليهم وتملأ سمواتهم بالغيوم .. لكنهم اكتشفوا أنهم قد دخلوا لعصر القيامة المجيدة بعد هذا بساعات.
شاول اليوم هو نفسه بولس الغد ...
والذي أنقذ الشاة من فم الأسد والدب بالأمس ، أكل هو نفسه الشاة عندما صعد على السطح اليوم ...
و دوام الحال من المحال ... ودوارة يا دنيا ...
لهذا مسكين من يبني أمانه على ساعته ، ومسكين من يفقد أمانه أيضاً بسبب ساعته الاثنان يتساويان ...
إن التوقيت الصيفي هنا ، شتوي هناك ، والنهار هنا ليل هناك ، والساعات التي تفصل بين الخبر وبين التعليق عليه قد تحول الخبر نفسه  لضده ...
ومن ينتظر الزمن ليتكلم قد يطول انتظاره .. الأيام لا تتكلم ، وكثرة الأيام لا تبد حكمة !! اسأل أيوب ...
المثير أنك إذا وضعت حتى النبوات الكتابية على خريطة الزمن الاستقرائية
فستجد مدارس مختلفة تقودك لنتيجة واحدة " علامة استفهام "، من يقول بأن الأيام القادمة تحمل نهضة ، ومن يقول الأيام القادمة تحمل ارتداد عن الإيمان ... وهذا بطريقة كتابية ، والثاني بطريقة كتابية أيضاً. والمشكلة ليست كتابية ،
لكنها مشكلة أن تجعل من كتاب الزمن المشفر، كتاب تطلب منه أن يفك الشفرة .

3- مرآة ظاهرية :   
التقت مرة دمعتان في بحر الحياة، فسألت أحداهما الأخرى : من أين أنت ؟! فقالت لها : أنا دمعة زرفت من عين فتاة فقدت خطيبها ، وأنت من أين أنت ؟! فأجابتها الثانية : أنا من عين الفتاة التي تزوجته !!
عجبي !!

يقول بولس بوضوح " لما كنت طفلاً كطفل كنت أتكلم، وكطفل كنت أفطن وكطفل كنت أفتكر " ..ويعلق بعد ذلك " الآن نحن ننظر في مرآة في لغز " ..
ما معناه : ليس كل ما تراه بعينيك حقيقي ... إنما هو ما يظهر أمام المرآة ... فلو نظرت للمرآة وضحكت سترى نفسك تضحك، حتى لو كنت من الداخل حزينا متألما .. أو يمكن أن ترسم على وجهك عبوسة ، وأنت من الداخل تضحك على نفسك.. الحقيقة في العمق ...الحقيقة في القلب، والقلب مختبئ خلف الضلوع، الحقيقة فوق مرتفعه فوق السحاب ، فوق التراب ...
ما أن تدخل مع أبنك إلى محل الألعاب حتى يتكلم قبل أن يفكر، تجده يصرخ ويجذبك من يدك ، ومن ملابسك أمام كرتونة كبيرة الحجم ، ألوانها لامعة، وتبدأ المسرحية : " بابا ، لو بتحبني هات لي اللعبة دي ، بابا ، احرمني من أي حاجة ، بس هات لي اللعبة دي ، ما تدنيش مصروفي تاني بس هات لي اللعبة دي " ... ثم نكتشف أن اللعبة "عروسة "... يصمت ثم تزوغ عيناه لحظات ، وبسرعة يجذبك لآخر محل اللعب ، ويبدأ في تكرار مساوماته وفصاله على لعبة أخرى.
اكتشفت أن ابني الصغير كان يتكلم قبل أن يفكر، لم يكن وحده الذي فعل هذا ، أنا أيضاً : " يا رب أعطني هذه الفتاة ... أعطني هذه الفرصة ... هذه الهجرة " ولا يقبل الله، ونتذمر ونبكي، ونأخذ جانباً... ويسمح الله أن أحداً آخر غيرك ينزع غلاف اللعبة ، فأكتشف أنها " عروسة " وأنا ولد لا أحب العرائس ... ونكتشف أن "يسوع المصلوب" هو نفسه الملك المتوج الذي كان "ينبغي أن يتألم بهذا ويدخل إلى مجده " ...
ما أخدع الواقع !!! ما أغرب مظاهره ، كم ندمنا على اختيارات ، كم تمنينا أن يعود الزمن قليلاً، أو كثيراً، لنكرر المحاولة... أو حتى نمتنع تماماً عن الاختيار ونترك الاختيار لآخر ... " .. اختار لي أنت يا بابا " !!

صديقي : ألم يحن الوقت أن ندير أكتافنا لهذه المرآة ، الغير يقينية ، الغير ثابتة ، الغير متكاملة ... ألم يحن الوقت أن نبحث عن مرآة أخرى : يقينية ، ثابتة ، كاملة ... أليس من حق أذهاننا، أو عيوننا أو أفكارنا أن تستريح قليلاَ من هذه المرآة ... إن مأساتنا التي تتعبنا أننا لا نملك حقيقة ، بل ظاهر ، ولا نملك من هذا الظاهر الذي أمامنا سوى جزء ، وهذا الجزء متغير ...
إننا ضحية ... صدقني ...
لسنا ضحية هذه المرآة الواقعية ، بل ضحية عدم وجود مرآة غيرها ...
هل يمكن أن يتركنا الله أمام هذا اللغز ؟!
هل يستمتع الله وهو يرانا هكذا نجري بحثاً عن سراب ...     

المرآة الثانية :
نحتاج مرات –بعد حادث كبير- أن نختار قناة تليفزيونية معينة في ساعة محددة لنسمع ماذا يقول محلل سياسي رأيه عن الحدث !!
لماذا ؟!
تعجبنا الطريقة التي يرى بها الأمور ...
كيف عرفنا ذلك !؟
كلامه، نبرات صوته الواثقة في الحزن أو التفاؤل أو الفرح أو اليأس ... إنه يتكلم بطريقة تخترق الشكوك ... وتجعل الغبار يستقر في مكانه، هذا الرجل بالذات إذا تضايق اعلم أن هناك مشكلة حقيقية، وإذا ابتسم اعلم أن المصيبة لها وجه آخر، وإذا تساءل اعلم أنه يريدك أن تفكر, ولكنه يعرف الإجابة ، وإذا اندهش اعلم أنه ليس مفاجئاً بل ربما معجباً أو منتقداً ...
كلامه حقيقي ، ليس مجرد واقعي  ...
متزن وليس مجرد يحاول ترضية الأطراف ...
ثابت كنظرية ، وليس تطبيقياً على موقف دون الآخر ...   
ومع أن تعبيرات وجهه تضيف نكهة لذيذة للمعنى ، ومع أن طريقة جلسته ولون
الزي الذي يختاره للحلقة يثبت هذه النكهة المعنوية ، لكن يظل كلامه هو محور الموضوع.  
هذا بالضبط ما يجعلنا ننتظر البرنامج ... هذا ما يجعلنا نصمت، ونسمع، ونستوعب، ونتضايق أحياناً من الفواصل الإعلامية ، لكي يستمر الحديث ...
شيئاً ما في قلوبنا يجعلنا نستطعم مذاق السخرية المرير من فمه، ونغمض عيوننا كثيراً عن صورة الواقع الإخباري لنرى واقع آخر افتراضي يقوله هو لنا ...
ونتنازل عن حقوقنا في معرفة الأسرار إذا تكتم عليها ... ونطالب بنفس الحق إذا تحدانا ... نختلف مع الآخرين في اقتناعهم بهذا المذيع أو ذلك .. لكننا في النهاية نجد هذا البرنامج هو محطة الوصول ... حتى وإن وصلنا في ليل حالك ، أو نهار مشرق لكننا في النهاية مستريحون .. فقد أزاح بكلامه الغموض، ورد على الأسئلة ، ووضع النقاط فوق الحروف ..  
يمضي وقت ونعود لنبحث عن البرنامج فلا نجده ، المذيع اختفى ... اختلف مع صاحب القناة الإعلامية ، وببساطة سيظهر على قناة أخرى بعد ذلك  ... ثم بعد ذلك المذيع منع من بث البرنامج في القناة التالية لأن هذا يضر بالأمن العام ...
إن هذا تماماً ما أردت أن أقوله بصورة أخرى والتي أٌقبل أن تختلف شكلاً عن الحقيقة لكنها -في الحقيقة- هي الحقيقة ...
فكما يعتبر الواقع مرآة نرى من خلالها كل ما هو متغير ، لأننا متغيرون .. وكل ما هو جزئي لأننا ناقصون ، وكل ما هو ظاهري لأننا ظاهريون ... فالله أيضاً له رأي آخر ... رأي كامل مثله ، فهو يرى "كل الأشياء معاً وليس بالانفصال عن بعضها البعض " ... ورأي ثابت " إلى أن تزول السماء والأرض ، لا يسقط من رأيه حرف أو نقطة " ، و رأي حقيقي "كظهور الفجر بعد عتمة الليل".
عزيزي، هناك مرآة أخرى ، صافية يمكن أن ترى فيها الكل ، وليس الجزء ، و
شفافة لا يخدعك فيها الظاهر عن الباطن، و ثابتة ستظل هكذا من كل الأوجه ، طول الوقت ... مهما تغيرت الأحداث ، ومهما اختلفت الأدوار وغاب الأبطال، وفرغ السيناريو من الحوار ...  
الله له رأيه ... وهذا ما نعرفه من خلال " كلامه " ...
وهذا ما يقوله يعقوب الرسول عن كلام الله " أن أي شخص يقف أمامها كالذي يرى وجه خلقته في مرآة " ... 
إنها المرآة التي ينظر فيها الله ... وكل من يطلع عليها ، يطلع على نفس ما يراه الله .. يا للصورة الصافية !! الحقيقية !! العميقة !! الكاملة !! التي لا تحتاج لوضوح ... 
للأسف إننا اليوم نتعامل مع الكتاب المقدس كما يتعامل إنسان عادي مع طلاسم سحرية ، أو كما يتعامل الأثري مع أثر مهدم ، مفتت ... في الوقت الذي سيظل الكتاب هو المسطرة ، وهو المرآة التي عندما تنظر فيها وتطيل النظر سترى كل شيء بمنتهى الوضوح ..  سترى المبادئ التي تصل بها للنهايات مهما تشعبت الطرق ... 
لكن المشكلة التي استعرضها الرسول يعقوب أن من ينظر إلى هذه المرآة يجب ألا ينظر لها كرجل ، فمن المعروف أن الذي يستخدم المرآة بدقة هي المرأة ... التي تطيل الوقوف أمامها، للتأكد من كل التفاصيل ... واستعادة النظر ... لا تنظر سريعاً وتمضي ... انتظر طويلاً ... ابحث عن الحقيقية على أرض الكتاب ، كمن يبحث عن كنز ... اصبر ... ستسمع مع الوقت ، لا تترك الإحباط يغلب نفسيتك ... إن الكتاب سيقلب صورة الواقع في عينيك ... فيسوع الواقع الناصري هو مسيح الكتاب المتوج ملكاً .. لم يسلمه أحد لقضاء الموت من رؤساء الكهنة ، بل تم ذلك بمشورة الله ... الله في الكتاب هو الملك المسيطر على مجريات الأمور في الواقع ...
وإلى لقاء في المرآة الأخيرة في مقال مستقل ... 
والرب يباركك ... 
وفيق 

حاول أن تنتظر ...



(1)
ما أطول الانتظار حين ننتظره ، وما أٌقصره حين ننشغل عنه ..
(2)
للحياة طريقتها في أن تعودنا على الانتظار ، فكم وضعت ترتيبنا الأبجدي دائماً متأخر في (قائمة الفرص) ... بينما مع آخرين عودتهم أن يكونوا أول من يرحب بهم القدر في ( حفلة السعادة ) ...
(3)
من منا يصافح حارس الأمن بحرارة وهو يتعمد تعطيل دخوله للحفل بحجة التأكد من أوراق هويته !! ...
من منا يحب سماع الرسالة الالكترونية "من فضلك أترك رسالتك بعد سماع الصفارة " ...
(4)
إننا لا نحترم الطابور، ونشعر بالظلم دائماً ممن فوقنا ، وممن أمامنا ، وممن معه (تأشيرة الدخول) ... وممن يعطيها.
(5)
نشعر بالتهديد من الساعة التي نمسك بها في أيدينا ، مع أننا نغازلها ونطليها من الخارج بالذهب ، ونستعجلها فبعد أن كانت عقاربها تلدغنا ببطء، حولناها لأرقام تطير بنا نحو أهدافنا ...
نهايته نحن نكره الانتظار، مع أننا لو عرفنا قيمته لفضلناه ألف مرة على السرعة ..
 (6)
إننا نستعجل الزمن ليأتي يوم الامتحان ، ولكن ما أن ندخل ونمسك بورقة الأسئلة حتى نندم أن الامتحان جاء –هكذا- بسرعة ..
إننا نستعجل الزمن لإجراء الجراحة الخطيرة ، لكن ما أن نرى طاقم التمريض يدخل أمامنا غرفة العمليات ويتجهز ، حتى نشعر بالانقباض ...
نستعجل الاحتفال الذي تدربنا على فقراته شهوراً، لكن ما أن يبدأ أول المشاركين في الوصول حتى نرتبك ...
أهو نوع من خداع الزمن، مثل خداع البصر ، وخداع السمع الخ ، أم هي رغبة قلقة دائمة تدفعنا أن نصل ...
وهل معنى هذا أن الرحلة غير ممتعة ، أم لأن الاستقرار مطلوب، وأن الحنين للوطن النهائي لا يساويه أمتع لحظات السفر ... ؟
(7)
ثم : لماذا لا نستمتع بأوقات الانتظار ؟!
لماذا لا نقضي أوقات القطار في الاستمتاع برؤية المشاهد من النافذة ؟
لماذا لا نتعلم أن نملأ الجرار بالماء مع صديقاتنا ونحن ننتظر العريس كصفورة ، بدلاً من أن نجلس في بيوتنا نندب حظنا ونعاتب الأيام ، من أدرانا فقد يكون موسى وأليعازر الدمشقي ، والمسيح نفسه ، هناك ... عند البئر  ...
لماذا لا نضحك على الزمن الآتي ، عندما نشحن يومنا ببذور الأمانة فلا نجد في الغد أمساً نندم عليه ، أو نبكي على أفعالنا أو منها فيه ...
(8)
إن وقت الانتظار يختلف عن حالة الانتظار ...
فليس كل وقت للانتظار نكون فيه في حالة انتظار، وليس كل مرة كنا فيها في حالة انتظار، كان هذا أنسب وقت للانتظار ... وهذا ما يصنع الفرق ما بين الانتظار وخيبة الأمل .. فنحن لا نميز عادة بين هذين الأمرين :
هل هي حالة انتظار فات وقتها أو لم يصل بعد، أم هو وقت انتظار ماتت حالته؟
(9)
أخيراً ، لاحظ أن أي وقت لانتظار أمر هو في ذاته وقت لفعل أمر آخر دون انتظار ...
فالوقت الذي ننتظر فيه النجاح في ذاته هو وقت للعمل، الوقت الذي ننتظر فيه البركة هو وقت للحياة بأمانة ... الوقت الذي ننتظر فيه شريك الحياة هو وقت للصلاة والدراسة والنظر بدقة حولنا ... إن وقت انتظارنا لعودة المسيح ثانية ،هو وقت للخدمة ... الخ . إن وقت الانتظار لوصول القطار يمكن أن يكون وقتاً لقراءة الصحيفة ، أو مجالسة صديق ـ أو مهاتفة صديقة ...
إذا قضينا وقت الانتظار بطريقة صحيحة استخدمنا توتر الانتظار وحولناه لقوة وانتصار أما إذا فقدنا وقت الانتظار طال وصول ما ننتظره، وربما فقدناه تماماً.
حاول أن تكون عظيماً

ما أصعب اللحظة التي تصطدم فيها بضآلتك!! أمام امتحان ، أمام مسابقة ، هجرة ، عمل !!
مع أن كلا منا يعرف أننا محدودين مكانياً، ومتناقصين زمنياً لكن مع هذا كل منا في نفسه يكره أن يكون محدود أو ضئيل أو مسكين.. فداخل كل منا إله رسمه على صورته، يتعبد له ، يفكر فيه ، يتمنى أن يتكلم الجميع عنه ... وأن يكون هو الكون بكل ما  فيه ...  
لكن – بكل أسف- الحياة مرات يبدو كأنها تتعمد أن تحشرنا في علبة صغيرة ، وتأخذ منا كل فترة شيئاً غالياً تشارك به الآخرين رغماً عنا .. أو تمنحه لهم على حسابنا ..
هل نكتفي أن نقف متفرجين على شاشة العرض الكبيرة ونحن في فيلم الحياة نلعب دور الضحية، أم نلبس نظارة ثلاثية الأبعاد ونصير جزء من الحدث... ربما جربنا هذا، لكن بهذا أيضاً لم نتمكن أن نتحول إلى جزء من الحدث ، وكأنه كلما حاولنا أن نكبر وأن ننتشر وأن ننجح ونحقق ذواتنا نجبر أن نصغر ...
أما الحقيقة بدون أي فلسفة، أننا صغار، ولا نملك أن نسيطر على أتفه التفاصيل خارجنا ... فيروس في الجو يمكن أن يفتت أحلامنا في الحياة، فراق يمكن أن يمزق أحشاؤنا كما يشق سكين شريحة رقيقة من اللحم ، كلمة جارحة من أحد المقربين يمكن أن تدمر صورتنا عن أنفسنا ... قرار سيادي يهزأ بكل استعداداتنا للوظيفة ... رصاصة طائشة يمكن أن تنهي ليلة العرس ...
نحن يا عزيزي لسنا أكثر من مجموعة من المساكين الذين أحبوا الحياة، لكنها نادراً ما قدرت محبتهم لها، أخلصوا لها فلم تعدل بينهم، تمسكوا بها فتركتهم كدمى ألقتها بعدما ملت من اللهو بها ، حلموا بها فأيقظتهم ...
نحن جهال فيما ندعي العلم ونحن أعلم من نكون بجهلنا ...
نحن مأساة قدر أن يكون لها رأس وقدمين لأنها فقدت أبجدية الحرية ...
كنا ولازلنا في هذا السباق، ولم نتقاعد حتى رغم أننا سقطنا أثناء الجري ... كنا ولازلنا في هذه الحلبة نتلقى ضربات القدر الأعمى ..
جهال ... فقراء ... مزدرى وغير موجود ... لا شيء ... أقذار العالم ووسخ كل شيء ... أول الخطاة ... آخر الطابور ... مساكين في أرواحنا حتى ونحن نقبض على العالم بأيدينا ... مغمورين وتافهين ربما في نظر أقرب من لنا ...
ها نحن قد وصلنا أخيراً ...
وصلنا حين انتهينا ...
هذه هي العتبة الأولى لملكوت السماوات ... أخيراً حصلنا على تأشيرة دخول ملكوت (غاندي البشرية) يسوع المسيح ...  " طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات " ...
هذه هي الأرضية التي تسمو على سماوات الكبار ....
يقف عليها صياد الجليل ، وصانع خيام من طرسوس ، وامرأة منبوذة سيئة السمعة ، وفتاة فقيرة من فتيات الناصرة ، ونجار وجابي ضرائب ، وشحاذ أعمي ، و...
يتهاوى من فوقها الوالي والكاهن ، والجميلات ، والأغنياء ، وأصحاب الأموال
لقد تضاءل الأوائل في القائمة العالمية ، فالقائمة الإلهية لم تتعرف على أسماءهم ، بينما سجلت القائمة السماوية أصفاراً في أعين أنفسهم وأعيننا ليسكنوا الملكوت ، ويسكن الملكوت فيهم ...
أما الذي رفض أن يترك عرشه لطفل المذود، والذي رفض أن يترك كيس المال ليحمل الصليب، رفضه الصليب ... ورفضه العرش ... على حد سواء .
إنها المعادلة الثابتة المتكررة بهدوء ، إنها أقوى معادلة صنعت بشر سماويين،  
ولم تحل نفسها على حساب الذين اختاروا غنى الحياة، وكرسيها وفراشها ، وقبرها وترابها ...

فمرحباً بك أيتها الفقيرة العاجزة الجاهلة ... إذ وصلت أخيراً للمحطة الأولى ...
مرحباً بك يا نفسي ، في ضيافة حضرة الغنى ، القدير الحكيم ... 

                                                                   حاول أن تكون عظيماً

ما أصعب اللحظة التي تصطدم فيها بضآلتك!! أمام امتحان ، أمام مسابقة ، هجرة ، عمل !!
مع أن كلا منا يعرف أننا محدودين مكانياً، ومتناقصين زمنياً لكن مع هذا كل منا في نفسه يكره أن يكون محدود أو ضئيل أو مسكين.. فداخل كل منا إله رسمه على صورته، يتعبد له ، يفكر فيه ، يتمنى أن يتكلم الجميع عنه ... وأن يكون هو الكون بكل ما  فيه ...  
لكن – بكل أسف- الحياة مرات يبدو كأنها تتعمد أن تحشرنا في علبة صغيرة ، وتأخذ منا كل فترة شيئاً غالياً تشارك به الآخرين رغماً عنا .. أو تمنحه لهم على حسابنا ..
هل نكتفي أن نقف متفرجين على شاشة العرض الكبيرة ونحن في فيلم الحياة نلعب دور الضحية، أم نلبس نظارة ثلاثية الأبعاد ونصير جزء من الحدث... ربما جربنا هذا، لكن بهذا أيضاً لم نتمكن أن نتحول إلى جزء من الحدث ، وكأنه كلما حاولنا أن نكبر وأن ننتشر وأن ننجح ونحقق ذواتنا نجبر أن نصغر ...
أما الحقيقة بدون أي فلسفة، أننا صغار، ولا نملك أن نسيطر على أتفه التفاصيل خارجنا ... فيروس في الجو يمكن أن يفتت أحلامنا في الحياة، فراق يمكن أن يمزق أحشاؤنا كما يشق سكين شريحة رقيقة من اللحم ، كلمة جارحة من أحد المقربين يمكن أن تدمر صورتنا عن أنفسنا ... قرار سيادي يهزأ بكل استعداداتنا للوظيفة ... رصاصة طائشة يمكن أن تنهي ليلة العرس ...
نحن يا عزيزي لسنا أكثر من مجموعة من المساكين الذين أحبوا الحياة، لكنها نادراً ما قدرت محبتهم لها، أخلصوا لها فلم تعدل بينهم، تمسكوا بها فتركتهم كدمى ألقتها بعدما ملت من اللهو بها ، حلموا بها فأيقظتهم ...
نحن جهال فيما ندعي العلم ونحن أعلم من نكون بجهلنا ...
نحن مأساة قدر أن يكون لها رأس وقدمين لأنها فقدت أبجدية الحرية ...
كنا ولازلنا في هذا السباق، ولم نتقاعد حتى رغم أننا سقطنا أثناء الجري ... كنا ولازلنا في هذه الحلبة نتلقى ضربات القدر الأعمى ..
جهال ... فقراء ... مزدرى وغير موجود ... لا شيء ... أقذار العالم ووسخ كل شيء ... أول الخطاة ... آخر الطابور ... مساكين في أرواحنا حتى ونحن نقبض على العالم بأيدينا ... مغمورين وتافهين ربما في نظر أقرب من لنا ...
ها نحن قد وصلنا أخيراً ...
وصلنا حين انتهينا ...
هذه هي العتبة الأولى لملكوت السماوات ... أخيراً حصلنا على تأشيرة دخول ملكوت (غاندي البشرية) يسوع المسيح ...  " طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات " ...
هذه هي الأرضية التي تسمو على سماوات الكبار ....
يقف عليها صياد الجليل ، وصانع خيام من طرسوس ، وامرأة منبوذة سيئة السمعة ، وفتاة فقيرة من فتيات الناصرة ، ونجار وجابي ضرائب ، وشحاذ أعمي ، و...
يتهاوى من فوقها الوالي والكاهن ، والجميلات ، والأغنياء ، وأصحاب الأموال
لقد تضاءل الأوائل في القائمة العالمية ، فالقائمة الإلهية لم تتعرف على أسماءهم ، بينما سجلت القائمة السماوية أصفاراً في أعين أنفسهم وأعيننا ليسكنوا الملكوت ، ويسكن الملكوت فيهم ...
أما الذي رفض أن يترك عرشه لطفل المذود، والذي رفض أن يترك كيس المال ليحمل الصليب، رفضه الصليب ... ورفضه العرش ... على حد سواء .
إنها المعادلة الثابتة المتكررة بهدوء ، إنها أقوى معادلة صنعت بشر سماويين،  
ولم تحل نفسها على حساب الذين اختاروا غنى الحياة، وكرسيها وفراشها ، وقبرها وترابها ...

فمرحباً بك أيتها الفقيرة العاجزة الجاهلة ... إذ وصلت أخيراً للمحطة الأولى ...

مرحباً بك يا نفسي ، في ضيافة حضرة الغنى ، القدير الحكيم ...